دروس من المغرب …./ محمد غلام الحاج الشيخ
حزب العدالة والتنمية المغربي حزب كبير غزير الطاقات والذهنيات المتميزة فكرا وعلما وخبرات ، مما أهله عن جدارة لإدارة الحكومة المغربية خلال العقد المنصرم.
ورغم استقلالية الحزب التنظيمية والفكرية وتميزه في الارتباط بالثقافة والتجربة المغربية تاريخا وواقعا فإنه
لا يمكن للمتتبع وهو يحاول تقويم أدائه ، فصله عن التجربة الإسلامية في عموم العالم الإسلامي، ذلك أن قادة هذا الحزب كانوا من خيرة من أثروا الفكر الإسلامي المعاصر وشاركوا في المشترك من أدبياته ومؤتمراته وقضاياه الكبرى ..
وبعيدا عن سطحية البعض وتحامل الشامتين في تناول ما لحق بالحزب من نتائج مفاجئة للجميع، فإنني أرصد هنا بعض النقاط الإيجابية والسلبية في أدائه كي لا تضيع الدروس المستفادة من كل ذلك ، وسط صخب القشورية في التناول والتقويم :
1- حاول البعض أن يجد تعلة لرأي الصدام وعدم الواقعية والرفض المطلق للتدرج في الحلول ، وذلك في ما حصل لحزب العدالة والتنمية في الانتخابات الأخيرة.
والواقع أن أهل ذلك التبسيط نسوا ان الحزب قد زادت مقاعده ومجالسه البلدية بعد سنوات خمس من أول حكومة شقت ذات النهج وبدأت ذات الطريق .
لقد استطاع حزب العدالة والتنمية ومن بين ركام خطاب مركب من أداء الشبيبة الإسلامية ومنابع فكرية وتراثية متعددة ، صياغة رؤية سياسية وفكرية تعتمد السلم الأهلي والشراكة ، في الوطن ، بعيدا من لغة الرفض وانتظار المَهدَويةِ ، مع قبول السقف المتاح والعمل تحت ظله، وتحويل ذلك النهج إلى قناعة لتيار واسع من حملة المشروع الإسلامي الفكري والسياسي وهو ما فتح للقوم الباب واسعا ، للتعامل مع الدولة العميقة في المغرب ، وتقديم خدماتهم وخياراتهم عبر أقنيتها والاستفادة من مميزات تراكم الحكم فيها ودروس التعامل مع الواقع تجسيرا للمسافة بين النظري والواقع على الأرض ..
2- لقد حسم الإسلاميون في المغرب أعني الحركة الفكرية والسياسية الموسومة بالإصلاح والتوحيد بقيادة وتأسيس بنكيران والعثماني والريسوني والحمداوي … حسمت هذه الحركة الموقف النفسي والشرعي من الملَكِيةِ فأعلنت ليس فقط القبول بها كموقف تكتيكي بل قناعة شرعية بالبيعة ، وسياسية تضمن وحدة المغرب وتماسك مكوناته العرقية، وأطراف خريطته الترابية ، الأمر الذي أخرج أفواج الشباب المنتمي لهذه المدرسة من دائرة معارك الحلقة المفرغة، وجعل الإسلاميين حزبا طبيعيا من ضمن الأحزاب التي تدير الدولة تحت سقف المَلَكيةِ تنجح وتفشل تدخل الحكم وتخرج منه ، ذراريهم لا تلاحق في الامتحانات ، ولا تمنع أطرهم من المسابقات ، طاقاتهم يستفيد منها الوطن ، ونظافة أكفهم تحرك راكد التكلس المكتبي في التعامل مع المواطن خدمة وإخلاصًا ..
3- قدم حزب العدالة والتنمية تجربة ثرية في إدارته للحكومة تميزت بمنجزات معتبرة في الملفات الاجتماعية والاقتصادية مع التواضع من طرف المسؤولين والقرب من المواطن المغربي والعيش بين أحضانه بكفاف لا بترف، وقد تميزت بذلك أكثر الفترة الاولى بقيادة بن كيران الذي أحسن في نظري شق الطريق الوعر ، حيث حسم الفرق بين احترام مقام الملك وصلاحياته وهو سقف نظَّر كثيرا لقبوله والتواضع أمامه
بينما دخل معرك مع من أسماهم – التماسيح والعفاريت – وأدار بقدرة فائقة معارك لا هوادة فيها ضدهم كشف فيها لوائح المفسدين والمنتفعين ، وتحدث بين الناس بلهجتهم ، وخطابهم بالذي يفهمون ، من القول البليغ ولم يترك للإعلام ظهره ليعريه ويشيطنه ، بل ظل بحضوره الكاريزمي المؤثر حاضرا يصنع الحدث ويغذي المتداول في حضور لا فت ..
ورغم المميزات الشخصية من علم شرعي وفكري وسياسي ونفسي ودبلوماسي للعثماني إلا انه جاء في وقت مختلف عن سلفه ، وفي أوج الثورة المضادة ومالها من المال الحرام الذي اخترقت به المجتمعات والدول وكوَّنت به أذرعا إعلامية وأمنية وسياسية في نسيج مجتمعاتنا الرخوة غير المحروسة، مما جعل الدكتور العثماني في موقف لا يحسد عليه، وهو ما جعله يقبل بهامش من الصلاحية والشراكة يبعده عن التأثير الحقيقي في إدارة الدولة وتمرير مايراه حزبه صوابا ونافعا للناس، الأمر الذي جعل الرجل أسيرا للاتئلاف الحكومي الهش الذي يبتزه كل مرة بالنصاب المطلوب لبقاء الحكومة على قيد الحياة.
ولم يكن المغاربة قد أعطوه من الأغلبية ما يحكم به مستقلا فعمد إلى اجتهادات أثرت على سمعة الحزب في كل الاتجاهات .
السلبيات :
4- ولعل من أبرز السلبيات التي أطاحت بالحزب هي استسلام القيادة لمنطق إرضاء الشركاء المختلفين أديولوجيا على حساب اهتمامات القاعدة الحزبية التي صعدت الحزب وأوصلته إلى الريادة، وفي ذلك درس مهم للجميع،إذ إن لكل حزب قواما من أساسين لا غنى له عنها أولهما الأسس الفكرية والاخلاقية.
وثانيهما القاعدة التي أعطته المكانة الانتخابية،وأي خروج يعجز القائد عن تبريره بإقناع وإلباسه ثوب المعقولية ، فهو فك عملي للارتباط مع القاعدة التي تمثل في عمومها ضمير الأمة والحارس لذائقتها العامة.
5- هناك ثلاثة أخطاء في نظري ارتكبها الحزب ودفع ثمنهما مضاعفا:
الأول قبوله إبان التفاوض على التشكيل بالحرمان من الحقائب السيادية بما فيها المالية والداخلية والخارجية وتحول أعضاء الحزب البارزين إلى حقائب في أحسن حالاتها فنية بعيدة عن الواجهة الحقيقية لقيادة الحكومة التي يدير وهو مسؤول سياسيا عن أدائها.
الثاني قرار التطبيع وهو من الكبائر السياسية والأيديولوجية عند الإسلاميين ، وقل أن تجد من قادة التيار الاسلامي من يسلم من ميراث مسجل ومحفوظ ، يتحدث عن مسلمات خطاب الرفض للتطبيع وجرائم الدويلة اللقيطة التي لا يجوز الاعتراف بها تحت أي ظرف…
الثالث هو تمرير فرنسة التعليم وهي مجال أيضا من المسلمات عند الإسلاميين الذين كثر حديثهم عن الهوية والأصالة وخلود اللغة العربية وكفاية بحرها الزاخر للتعليم وشرح المناهج، بل يعتبر ذلك عند الكثير من الدارسين شرط النهوض والارتقاء الذي يبدأ من فك الارتباط بالرطانات الأجنبية الغريبة على مجتمعاتنا لغويا وثقافيا..
ولعل ما عمد إليه الحزب من إبعاد رموزه الذين عرف بهم عن دوائر الترشيح ، أخطاء تعمد إليها بعض الاحزاب تحت ضغط دعاية التجديد فتفقد الفرص وتضيع الأداء..
فالأمة تحتاج إلى من تعرف وتثق به ما لم تكن راغبة في طمع أو خائفة من ضرر عند السلطة المطلقة ..
إنني أكبر في الدكتور الموقر سعد الدين العثماني الخلوق المتواضع بدون تكلف ، تحمله المسؤولية مع إخوانه وإعلانه الاستقالة ، إلا أن واجب الاستشراف الذي هو من أهله ، كان يملي عليه الاستقالة قبل تلك القرارت التي انساق لها مرغما قبل أن يقع الفأس في الرأس ، ففي الثقافة الديمقراطية كما تُعلمنا التجارب الأروبية يستقيل رئيس الوزراء ويخلي مقعده خصوصا إذا كانت الظروف تملي عليه ما لا يقتنع بنفعه للأمة التي يدير شانها
لننظر الى ما قام به ديفيد كامرون أوان الاستفتاء على الخروج من الاتحاد الاروبي في بريطانيا
يبقى من الضروري البعد عن التجريح أحرى الشماتة بالاخوة الكرام وفي مقدمتهم الدكتور الموقر سعد الدين العثماني، كما أن عليه مع إخوانه إدراك أهمية موقعهم وتجربتهم التي وإن كانت محلية في المغرب إلا أن تداعيتها تجر بذيلها سلبا وإيجابا على الجميع.
الخلاصة الخطأ في التجربة ليس مرتبطا بأصل قرار الواقعية والعمل تحت السقوف المتاحة ، بل في عدم الانتباه للحدود المحروسة ، شرعا وشعبا ، كما أن الخطأ كامن في الرخاوة مع أخطبوط الفساد والسكوت عن هواميره، السامة ، المغضوب عليها من طرف الأمة التي لم تعد تحتمل مسايرة الفساد والسكوت عليه.
على الطرف الاخر أتمنى من المنظرين للمملكة المغربية والحادبين على السكينة فيها أن يدركوا أهمية تجربة العدالة والتنمية في زرع خطاب الاعتدال والواقعية وأن يساعدوا الحزب كفصيل وطني مخلص على اجتياز محنته والوقوف على قدميه، كي يظل سندا للأمة المغربية خادما لها بإخلاص، وأن يدركوا أن أي فراغ ينتج عن غيابه من الساحة سيملؤه خطاب اليأس من التغيير والرفض لأصحاب الحلول الوسط القائلين بالعمل من خلال الممكن المتاح.