أقلام

أزقة البدو المتحضرة / محمد سالم جدو

 

في بلدي، أرض المنارة والرباط، نواة العلم والأدب، مَجْمع الأعراق، ومنبعُ الأشواق، بين زهور الحب الجميلة ونسائم الشوق العليلة، زغاريد الطير الرقيقة في أرض شنقيطَ العتيقة، نغوص في ملامحها العميقة، تحت إيقاع نشيدنا، على أديم أرضنا نردد “يا أُمَّنا..يا أُمَّنا” لنترك أنفسنا تسيح في مُتّسع الحنان.
على التلة الحمراء في آنِ الغروب على أنغام الصحراء، وقعُ الرياح على النخيل، رُغاء الإبل ومواء البقر، وفي الآنِ نفسه تتماشى رناتُ أجراس وُضِعت في أعناق الغنم – لإفزاع الذئب عند المطاردة -، إذن تلك ملامح الحياة البدوية، لكن فورَ معرفة المجتمع ثقافة المدن والتمدن، طفقت هذه ملامح البدوية تصافح تطور المدينة.
بدأ الريف يحبو حبوه البطيء تأقلما مع التحضر فظهر العمران خجولا وامتزج بمعالم البادية، إذا ألقيت نظرة ترى سيارة ” الكورولا ” في الشارع وقد زاحمتها الغنم فسدّت طريقها لتمر بتوأدة وكياسة شديدين – عملية دقيقة – حتى لا تصيب القطيع، -حسنًا التفِت إلى الجانب الآخر- سترى سيدة تغسل الثياب وقد سكبت الغسيل على الرصيف وعلّقت ما أنهت غسيله على حبل عُقد بينها والجيران – يشتركونه ربما – لتصطف الثياب عليه بعشوائية ألوانها وأحجامها – أرجِع البصر – ترى صاحب الدّكان قد جلس إلى “لمّاعِينْ” و عن يمينه فُرنٌ فيه جمر موقَد، وعن شماله جهاز راديو، عند كل كأس ينادي البَنّاءَ بمقابله، فينزِل ويرمي ما بيده من أدوات ليشرب كأس الـ”أتاي”، أما الزُقاق الموالي فيبدو به عُرسٌ قد شُد طبله وأنشدت قَيناتُه “لا اتجونا ماجبتوهَا” بينما نصبت نسوة أُخريات تننانيرا كبيرة على رصيف الزُقاق وجلسن يحرسنها من مُتصيِّدي أبناء الحي، وعند زفِّ العروس ترتص السيارات استعدادا لانطلاقَةٍ سريعة تماما كما تتمَطّر الاحصنة عند الكر، لكنّ صهيل السياراتِ صوتُ أبواقُ التنبيه، أما في ملتقى الطرق فترى باعة الماء وقد اصطفّوا كلٌ على عربته الموثَقة بحماره أشدَّ وِثاق – نصفُ سيارة ودابة – ، وعليها خزانات مياه، فيملؤها وينطلق بها في الحي تُوّجِّهه بوصلةُ الحدس، وأما الجمعة فحدثٌ عظيم وأجرٍ عميم، تبدأ مراسيم الاستعداد لها قبلها بشطر ساعة، وتُعد من الطاعة، و ” إذا نودي للصلاة ” يخرج الرجال متعطرين متمطرين والنداءَ مُلبّين، تتوقف الصناعة والطباعة، وترى الدكاكين موصدة، أبوابها مُصفدة، على خلاف المسجد.
ربما هي مرحلة من عمر المدينة، تتنازعُها فيها الحضارتان، العصرية والأصلية، لِتَرسم شكلا حضاريا جديدا بين هذا وذاك، وربما صورة علقت في ذاكرتي أيام الطفولة من حي ” بوحديدة ” .

محمدسالم ولد جدو

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى