محطات من الغزو الفكري
الجزء الأول – فرنسا مثالا
يقال إن ( الأمة التي تحفظ تاريخها تحفظ ذاتها ) والتاريخ كما يقول سيد قطب رحمه الله : ( ليس هو الحوادث وإنما هو تفسير هذه الحوادث، والاهتداء إلى الروابط الظاهرة والخفية التي تجمع شتاتها، وتجعل منها وحدة متماسكة الحلقات ، متفاعلة الجزئيات، ممتدة مع الزمن والبيئة امتداد الكائن الحي في الزمان والمكان )
فالأمة اليوم بحاجة إلى مرجعيات تنظر إلى المستقبل والماضي من نفس الزاوية وتفسر ظواهر الحاضر وتنبؤات المستقبل بناء على إلزاميات الواقع واستنتاجات الماضي , فالعلاقة بين الماضي والمستقبل علاقة رصينة لا يمكن فكها بأي حال من الأحوال فهي أقرب ما تكون لعلاقة الزمان والمكان ( الزمكان ) , فكما يقول جورج أوويل ( من يتحكم في الماضي يتحكم في المستقبل؛ ومن يتحكم في الحاضر يتحكم في الماضي( وانطلاقا من هذ المنطلق فقد كان أكبر أهداف أعداء الماضي والحاضر والمستقبل فصل هذه الأمة عن ماضيها لتسهل قيادتها مستقبلا وكان من أكثر هؤلاء الأعداء اندفاعا وتحمسا لهذ المشروع ( الجمهورية الفرنسية ) وتاريخ فرنسا الاحتلالي والصليبي قبل ذلك خير دليل على ذلك , ولكي تكتمل الصورة لا بد أن نمر بصفحات من هذ التاريخ :
أولا الحروب الصليبية
لا يخفى على الناظر في تاريخ الحروب الصليبية أن إرنست باركر لم يُبالغ حين وصف فرنسا بأنها الموطن الطبيعي للحروب الصليبية .
فلقد انطلقت الحملة الصليبية الأولى 1096 من ( دوقية لورين ) شمال شرق فرنسا وكان المزارعون الفرنسيون هم وقودها الدافع فضلا عن غيرهم من الأوربيين .
كما كانت فرنسا الداعم الأكبر للحملة الصليبية الثانية 1147 – 1192 ماديا ومعنويا وكان من أشهر قادتها لويس السابع ملك فرنسا ولا يخفي على مقلب لصفحات التاريخ ما فعله الصليبيون أثناء انتصارهم في بيت المقدس 15 يوليو سنة 1099م، حين أقاموا فيها مذبحة قضوا على ساكنة القدس جميعًا رجالا ونساءً وأطفالا وكهولا، واستباحوا مدينة القدس أسبوعًا يقتلون ويدمرون حتى قتلوا في ساحة الأقصى فقط سبعين ألفًا من المسلمين. ويذكر أن ريموند القائد الصليبي احتل “مَعَرَّة النعمان”، وقتل بها مائة ألف،ٍ وأشعل النار فيها.
كما قاد الملك الفرنسي ( فيليبس الثاني أغسطس (بالفرنسية Philippe Auguste الحملة الصليبية الثالثة , من الجَدِيْر بالذِّكْر:;كذلك أن مَلِك إنجلترا ريتشارد الأول ـ المُلَقَّب بقَلْب الأَسَد ـ المُشارِكُ في الحَمْلة الثالثة، والقائد العام لها عقب رُجوع فيليب لفرنسا كان قد نَشَأ في جنوب فرنسا، وتَشَرَّب بالثَّقافة الفَرَنْسِيَّة الجنوبية، وكان له مُمْتَلَكات في شمال فرنسا، وكانت أُمُّه إليانور آكيتيان (بالفرنسية: Aliénor d’Aquitaine) زَوْجَةً للويس مَلِك فرنسا السَّابِق الذِّكْر قبل أن تَتَزَوَّج من أبيه هنري الثاني، والذي كان قد وُلِدَ في فرنسا .
وهكذا ظل الفرنسيون هم القلب النابض للحملات الصليبية بدءا من الأولى وحتى الثامنة التي قادها
(لويس التاسع (Louis IX) أو لويس القديس (Saint Louis) هذ فضلا عن دور سلالة لوزينيان في هذه الحملات ودور مأسسها.
ولاننسى أن تلك الحروب اشتهرت عند المسلمين باسم ( حروب الفرنجة ) فالفرنجة تعريب لكلمة فرانك بالفرنسية ( franc ) وهو اسم للشعب الجرماني الذي ظهر في فرنسا بعد سقوط روما وتأسست عليه القومية الفرنسية .
لقد كان الهدف الأكبر لهذه الحملات إقامة ممالك صليبية وانتزاع بيت المقدس من سلطة الخلافة الإسلامية والسيطرة المادية والمعنوية على الشام مركز القوة الإسلامية حينها.
لم تضع الحروب الصليبية أوزارها ولم تتوقف طموحات دعاتها وقادتها إلا بعد أن أجهدت على رأس الخلافة الإسلامية على يد العميل الماسوني أتاتورك 1924 , وحينها بدأت مرحلة جديدة من الغزو تم التركيز فيها على الجانب الفكري بعد أن تم تدمير القوة العسكرية والاقتصادية والنظم التشريعية والتماسك الاجتماعي للأمة الإسلامية عرفت هذه الحقبة بمرحلة الاستعمار .
إن مصطلح الاستعمار الذي يعتبر مرادفا ل الاحتلال غير دقيق في وصف هذه الحقبة التاريخية والسياسات التي ميزتها وأعتقد أنه من الأخطاء اللغوية الشائعة وربما يكون محاولة غربية لتجميل هذه الحقبة .
فالبون شاسع بين مفهوم الاستعمار في اللغة العربية ومفهومه الغربي فالاستعمار عند العرب هو الحياة والبناء ومنه قوله تعالى
{ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } صدق الله العظيم ( سورة فاطر – الآية 11 ) وقوله تعالى : { هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا } صدق الله العظيم ( سورة هود – الآية 61 ) أي أذن لكم في عمارتها و جعلكم عمارها ولأمثلة متعددة , ولا يوجد معنى واحدا لمادة عمر في جميع قواميس اللغة العربية بمعني احتل
وهذ خلاف الواقع فالمستعمر لم يأت لعمران هذه البلدان وحياتها بل أتى لتدميرها وفرض ثقافته وسياسته على أهلها فالأولى أن يسمي احتلال اغتصاب إلى غير ذلك من المرادفات التي تتلاءم مع ما قام به المحتل في البلدان التى احتلها .
سنتجاوز حقبة الاحتلال الأولى والممارسات التي ميزتها فهي غنية عن التعريف لنصل إلى حقبة الاحتلال الأخيرة أو ما يسمى الاحتلال الحديث والتي تعرف بالعولمة , هذه الحقبة خلاصة لاستنتاجات فترات متراكمة من الاحتلال فهي لب الاحتلال وطمس الهوية ,
إن كل فترة تاريخية تحتاج إلى آليات وأساليب تمليها الضرورة فحين جربت الشعوب أنواع القهر والظلم وطمس الهوية ونهب الثروات على يد المحتل بكافة ألوانه ومختلف سياساته وصلت إلى مرحلة الرفض , وقتها كان لزاما على هذ المحتل أن يغير من أساليبه , وآلياته ليضمن استمرارية هيمنته , وضمان مصالحه هذ فضلا عن ما تلقاه داخليا من نكبات كان لها الدور الأفضل في ( تحرر الشعوب ) حينها لجأ المحتل إلى تمكين بعض هذه الشعوب من زمام أمورها ( شكليا ) وقبل أن يقوم بذلك عمل على وضع بيوضه في مراكز قرار هذه البلدان وقد أفرخت هذه البيوض بعد خروجه منها كما قال العلامة والمفكر محمد سالم ولد عدود رحمه الله . ونحن ما زلنا نعيش هذه المرحلة بتجلياتها والبيوض ما زالت توضع وتحضن وتفقس بشكل مستمر . وسنتحدث إن شاء الله في المواضيع القادمة عن أمثلة لهذه العملية . يتواصل إن شاء الله.