أقلام

المفتي يكتب عن ديون الشيخ علي الرضى(مقال)

 

 

 

 

: بسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله
لا أعرف الكثير عن الشيخ الشريف علىّ الرضا بن محمد ناجى الصعيدىّ، لأننا لم نلتق إلا مرّتين، إحداهما فى بلدنا “الربيع” حين زارنا منذ زهاء عشرين سنة، معزّيا فى عمنا الشيخ سليمان ـ تغمده الله برحمته.
ولعله اختار أن يأتى فى اليوم الرابع بعد انفضاض جموع المعزِّين الذين وفدوا من مختلِف الجهات والأصقاع، وتكرم بالمقيل معنا، وكان يوما حافلا بالأحاديث العلمية والأدبية.
وفى المرة الثانية كانت الدعوة إلى منزله العامر شمالىَّ العاصمة، بعيد اللقاء المذكور، وكانت فى إحدى ليالى رمضان المعظم، بعد التراويح، ولكن كنتُ حينَها على أهبة السفر إلى الحجاز، فلم يكن أمامى متسَعٌ من الوقت. وبالرغم من ذلك فقد كانت هذه اللقيا كسابقتها لقيا أخوية ودّية عُمِرت بالمطارحات المفيدة، والمذاكرات الجميلة.
ثم إن الشيخ أرسل إلينا قبل سنتين وفدا كريما معزيا فى الخليفة الشيخ موسى بن محمد بن الشيخ سيدى بابه ـ تغمدهما الله برحمته. وفى الوفد خمسة شعراء مبدعين رثَوا الفقيد بخمس فرائدَ من عيون الشعر، وألقى أحدهم خطبة بليغة باسم الشيخ الرضا، فجزاهم الله وإياه خيرا.
والذى لمَسته من خلال اللقاءيْن المذكورين أعلاه ـ على تطاول أمدِهما ـ ثم ما انتهى إلىّ، بعد ذلك، من خبر الشيخ الرضا أنه يمنع الاستغاثة بغير الله، ويحبّ السنّة، ويناصر الرسول عليه الصلاة والسلام، مع مشاركته القوية فى العلم والأدب، وتحلِّيه بالتواضع، والأخلاق الفاضلة.
وقد أعلن قبل مدة، عبر تسجيل صوتىّ سمعته، أنه تائب من المعاملات التى كان يُجريها وكلاؤه مع الناس، بعد أن تبين له خطؤه فيها. والاعتراف بالخطإ، قد طارت به، فى هذا العصر، عنقاءُ مُغْرِبٍ، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له. لكنْ إنما ذلك فيما بينه وبين الله عز وجل. وأما ما يتعلق بحقوق العبَاد المترتبة فى ذمته، فقد صرّح باعترافه بها، وأقرّ على نفسه بثبوتها، وأقسَم أمسِ فى المصحف الكريم سبع مرات على أنه ساعٍ فى تسديدها، حسب ما رأيت فى بعض المواقع، وتواتر به الخبر عنه، وتداولته وسائل الاتصال.
وبالرغم من جهلى بطبيعة هذه المعاملات وتفاصيلها، فإنه لا يسعنى ــ بناء على ما رأيتُ وسمعتُ من تسجيلات للشيخ الرضا ــــ وخصوصا بعد التسجيل الأخير الذى تضمن القسَم فى المصحف، بطريقة مؤثرة ــ وذلك ما دفعنى إلى رقم هذا المسطور أصلا ــــ إلا أن أوجه المطالب الأربعة الآتية:
وشطرها موجه إلى الدائنين، فالأول: إيصاؤهم بالصبر والتريّث حتى يفتح الله، وهو الفتاح العليم.
والثانى: ترغيب أهل اليسار منهم فى التنازل عن قسط من تلك الديون، مسامحة، لعل الله أن يسامحهم يوم القيامة.
ففى الصحيحين، واللفظُ لمسلم: عن رِبْعِىِّ بْنِ حِرَاشٍ، قَالَ: اجْتَمَعَ حُذَيْفَةُ، وَأَبُو مَسْعُودٍ، فَقَالَ حُذَيْفَةُ: “رَجُلٌ لَقِىَ رَبَّهُ، فَقَالَ: مَا عَمِلْتَ؟ قَالَ: مَا عَمِلْتُ مِنَ الخَيْرِ إِلَّا أَنِّى كُنْتُ رَجُلًا ذَا مَالٍ، فَكُنْتُ أُطَالِبُ بِهِ النَّاسَ، فَكُنْتُ أَقْبَلُ المَيْسُورَ، وَأَتَجَاوَزُ عَنِ المَعْسُورِ، فَقَالَ: تَجَاوَزُوا عَن عَبْدِى”. قَالَ أَبُو مَسْعُودٍ: هَكَذَا سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ”.
وفى لفظ له: “عَنْ حُذَيْفَةَ، قَالَ: “أُتِىَ اللهُ بِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِهِ آتَاهُ اللهُ مَالًا، فَقَالَ لَهُ: مَاذَا عَمِلْتَ فِى الدُّنْيَا؟ قَالَ: ــ وَلَا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثًا ــ قَالَ: يَا رَبِّ آتَيْتَنِى مَالَكَ، فَكُنْتُ أُبَايِعُ النَّاسَ، وَكَانَ مِنْ خُلُقِى الجَوَازُ، فَكُنْتُ أَتَيَسَّرُ عَلَى المُوسِرِ، وَأُنْظِرُ المُعْسِرَ، فَقَالَ اللهُ: أَنَا أَحَقُّ بِذَا مِنْكَ، تَجَاوَزُوا عَنْ عَبْدِى”؛ فَقَالَ
عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ الجُهَنِىُّ، وَأَبُو مَسْعُودٍ الأَنْصَارِىُّ: هَكَذَا سَمِعْنَاهُ مِن فِى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم”.
وفى لفظ له آخر عن حذيفة: “قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “تَلَقَّتِ المَلَائِكَةُ رُوحَ رَجُلٍ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَقَالُوا: أَعَمِلْتَ مِنَ الخَيْرِ شَيْئًا؟ قَالَ: لَا، قَالُوا: تَذَكَّرْ، قَالَ: كُنْتُ أُدَايِنُ النَّاسَ فَآمُرُ فِتْيَانِى أَنْ يُنْظِرُوا المُعْسِرَ، وَيَتَجَوَّزُوا عَنِ المُوسِرِ، قَالَ: قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: تَجَوَّزُوا عَنْهُ”.
وفى الصحيحين عن عبد الله بن كعب بن مالك أن كعبَ بنَ مالكٍ أخبره: أنه تَقَاضى ابنَ أبى حَدْرَدٍ دَيْناً كان عليه فى عَهْدِ رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلم فى المسجد، فارتفعت أصْواتُهما حتى سَمِعهما رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلم وهو فى بيتِه، فخرج إليهما رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلم حتى كَشَفَ سَجْفَ حُجرته، ونادى كعبَ بنَ مالك، فقال: “يا كعبُ” فقال: لَبَّيكَ يا رسولَ الله، فأشار إليه بيدِه أن ضَعِ الشَّطْرَ مِن ديْنكَ، قال كعبٌ: قد فعلتُ يا رسولَ الله، قال النبىُّ صلَّى الله عليه وسلم: (قُم فاقضِهِ)”.
والمطلب الثالث: للأغنياء ورجال الأعمال والجهات الرسمية والمؤسسات العامة والخاصة والجمعيات الخيرية والمحسنين، وفاعلى الخير ــ عموما ــ أن يمدوا يد العون والمساعدة، كلٌّ بما يستطيع، إسهاما فى تخفيف أعباء هذه الديون المجحفة.
ففى الصحيحين وغيرهما، من حديث ابن عمر رضى الله عنهما: “أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «المُسْلِمُ أَخُو المُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يُسْلِمُهُ، ومَنْ كَانَ فِى حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللهُ فِى حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَن مُسْلِمٍ كُرْبَةً، فَرَّجَ اللهُ عَنْهُ بِهَا كُرْبَةً مِن كُرَبِ يَوْمِ القِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللهُ يَوْمَ القِيَامَةِ».
والمطلب الرابع: لبقية أفراد المجتمع، أن يدعُوا الله عز وجل بتيسير حل هذه الأزمة، وتفريج هذه الكربة، وأن يحْذَروا من الشماتة والتشفِّى.
وأخيرا، فإن الاستدانة جائزة، ولا عار فيها، والذى يُمنع إنما هو أخذ أموال الناس لإتلافها، أو لاستعمالها فى الحرام، أو مطلُ الواجد، أو نفىُ الحقوق الثابتة.
أما من استدان، بوجه شرعىّ، ثم عجَز عن القضاء، مع إقراره بالحق المترتب فى ذمته، وسعيه فى تحصيل القضاء، فلا تثريب عليه. وعلى أصحاب الحقوق أن يُنظِروه إلى ميسرة، كما قال تعلى: (وإن كان ذو عسرة فنظِرةٌ إلى ميسرة). بل خير لهم أن يتبرعوا، كما فى خاتمة هذه الآية: (وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون).
قال الطبرىّ فى تفسيره: “وأولى التأويليْن بالصواب تأويل من قال: معناه: “وأن تصدّقوا على المعسر برءوس أموالكم خيرٌ لكم…”.
وقال القرطبىّ، فى تفسيره: “وقال جماعة من أهل العلم: قوله تعلى:(فنظرة إلى ميسرة) عامة فى جميع الناس، فكل من أعسَر أُنظِر، وهذا قول أبى هريرة والحسن، وعامة الفقهاء”.
وقال ابن عطية: “وأما مع العُدْم والفقر الصريح، فالحكم هو النظِرةُ ضرورةً”. اهـ
وهنا عسى أن يقول متقول: هذه دعوة وعظية لإلزام أصحاب الحقوق أن يتركوها جملة وتفصيلا، فيخسَروا أموالَهم، ويذهبَ كدُّهم سُدى!!!
والجواب أنْ معاذَ الله، فإن لهم الحقَّ فى المطالبة بديونهم موفورةً غيرَ منقوصة، وأنّ لهم أن يحرِصوا على أن لا يضيع لهم مثقالُ ذرة من حق، وأن لا عار عليهم فى ذلك أيضا ـــ على الوجه المعروف ــ ، وأن القادر على الأداء يكون ظالما بتأخير الحقوق عن أصحابها.
قال القرطبىّ فى تفسيره:
“قوله تعلى: (وإن كان ذو عسرة) مع قوله: (وإن تبتم فلكم رؤس أموالكم) يدل على ثبوت المطالبة لصاحب الديْن على المَدين، وجوازِ أخذ ماله بغير رضاه. ويدل على أن الغريم متى امتنع من أداء الدين، مع الإمكان، كان ظالما، فإن الله تعلى يقول: (فلكم رءوس أموالكم)، فجعل له المطالبة برأس ماله. فإذا كان له حق المطالبة، فعلى مَن عليه الديْنُ ـــ لا محالة ـــ وجوبُ قضائه”.
وفى صحيح مسلم: “عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضى الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَطْلُ الغَنِىِّ ظُلْمٌ، وَإِذَا أُتْبِعَ أَحَدُكُمْ عَلَى مَلِىءٍ فَلْيَتْبَعْ”.
فحقوق الطرَفين مكفولة بالعدل الإلهىّ المطلق.
وقصارى ما اقترحتُ على الدائنين هو ما أرشدهم إليه كتاب ربهم جل وعلا، من الصبر والأناة، والإنظار إلى الميسرة، والمسامحة بما تطيب به نفوسهم، تذكيرا لهم بالأفضل، وامتثالا لقول الله تعلى: (وذكّر فإن الذكرى تنفع المؤمنين)، وأيضا من باب قول النبىّ صلى الله عليه وسلم: “من دل على خير فله مثل أجر فاعله”. أخرجه مسلم، فى الصحيح، من حديث أبى مسعود الأنصارىّ، رضى الله عنه، بهذا اللفظ. والله على ما نقول وكيـــــــــــــــــــــــــل.
ولا حول ولا قوة إلا بالله العلىّ العظيم. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى