بصراحة: الإصلاح والهوية والتشنج / المفتش محمد بلل
أيها الأحبة،
لقد عشنا ردحا من الزمن في مجتمع مسلوب الإرادة ممسوخ الهوية بفعل الاستعمار… ذلك أن بلدنا لم ينل بعد استقلاله، فالمستعمر كما تعلمون لا يرحل عن البلدان المستعمرة حتى يكلها لأيد أمينة تحقق له فيها مصالحه بأقل كلفة، وهؤلاء الوكلاء سعوا طيلة الفترة الماضية من عمر الدولة الحديثة لأن يرسخوا بعض المبادئ في اللاوعي الجماعي مفادها:
– لا يمكن أن يوظف إلا من يجيد لغة “موليير”.
– لايمكن أن يعين في مناصب سامية من لم يتقن تلك اللغة.
– لا يمكن أن يوصف بالمثقف من لا يدخل في كلامه العادي بعض كلمات الفرنسية، ويأتي ببعض الأمثلة الأجنبية ليدعم بها رأيه.
– أقنعونا بأن الفرنسية هي لغة إخوتنا الأفارقة، وأنه لايمكن التخاطب معهم ولا التفاهم ما لم نجعل تلك اللغة هي لغة التخاطب بيننا.
– بل حاولوا أن يصموا كل من يدعو إلى التعريب بالعنصرية.
لا لا… ما هكذا يا إخوة: اللغة الفرنسية لغة أجنبية بالنسبة للجميع، بل لغة عدو للجميع، همه الأول بث الأحقاد والنعرات بين مكونات شعبنا المسلم، شعبنا المسالم، شعبنا المتآخي.
إن لغة القرآن، لغة كلام الله، اللغة التى نزل بها آخر خطاب من السماء إلى الأرض هي لغتنا التي تجمعنا جميعا، بغض النظر عن أصولنا الطينية: بربرا، أو عربا، أو أفارقة…
هذه اللغة هي التي يمكن أن تجمع الأمة كلها، من مشرقها إلى مغربها، وهي التي ستفهم بها كتاب ربها، وسنة نبيها صلى الله عليه وسلم، وهذه اللغة هي التي كانت توحد الأمة قبل زمن قصير، فالحرف العربي هو الذي كان يكتب به التركي، والسننكي، والكردي، والأمازيغي، والولفي، والبولاري، والصيني، والفارسي الذي لا يزال يكتب به لحد الساعة…
صحيح أننا الآن أمام واقع آخر هو أن أمة القرآن في حالة ضعف، وأعداؤها في حلة قوة، وقد تركوا وراءهم عند انسحابهم من ينوب عنهم في الدفاع عن ثقافتهم ومنهجهم وأسلوبهم… ولكن الضعيف لا يظل ضعيفا دائما، كما أن القوي لا يظل قويا دائما، فاستمرار الحال من المحال…
وصحيح أيضا أن جيلا كاملا من أبناء هذا الوطن قد تربى على تلك الثقافة ورضع بلبانها، ويرى أن مستقبله مرتبط بها، فليس من الإنصاف ولا من العدل، بل ولا من الممكن أن نلغيه دفعة واحدة، بل لا بد أن يشعر أن حقه مصون مكفول، وأن دوره في ماضي بناء هذا المجتمع مشكور مقدر، وله كامل الحق في أن يتمتع بجميع امتيازاته وحقوقه مع التبجيل والاحترام.
ولكن لا بد أن يفهم في نفس الوقت أن بلدنا كان يعيش حالة اختطاف أو اغتصاب لهويته، ولغته وثقافته بل لكل مميزات (إنيته) مما يحتم عليه أن يدرك أن عليه أن يتحمل المسؤولية مع الجميع لرد المياه إلى مجاريها الطبيعية.
لا بد أن يدرك الفرانكفونيون من كل مكونات شعبنا أننا كنا طوال القرن الماضي نسير في طريق خاطئ، وأنه آن لنا أن نتدارك الوضع قبل أن تغرق السفينة بالجميع، وأن علينا أن نبدأ اليوم قبل الغد رحلة إصلاح تربوي ثقافي اجتماعي قد تكون شاقة ومؤلمة – في بعض الأحيان – ولكن نتائجها محمودة ومضمونة، نستعيد بها وحدتنا وكرامتنا وهويتنا، وعند الصباح يحمد القوم السرى.
أدرك تماما أن فترة المخاض قد تقع أثناءها اهتزازات وتشنجات بل وتمرد وتطاول أحيانا، ويتوقع ذلك من كلا الفريقين:
– فريق ربط مصيره بلغة المستعمر، وأصبح يرى العالم بعيونه، فالحسن عنده ما استحسن والقبيح ما استقبح، ولا يرى له دورا في هذه الحياة ولا مستقبلا إلا من خلال لغة وثقافة المستعمر.
– فريق آخر يرى أن الوطن لم يخرج بعد من عباءة المستعمر وأنه لا مجال لتضييع دقيقة واحدة في تكبيل الوطن بأغلال أطروحات المستعمر ورؤاه، وأن كل من يدعوا لترك الحال على ما كان هم خونة من أذيال الاستعمار، مكن لهم في رقاب البلاد والعباد، ويجب التخلص منهم في أول سانحة، أما وقد أتيحت الفرصة فلا مجال للتأخير، ولا داعي للمراوغة والتأجيل.
وبين هذا وهذا يبرز فريق ثالث يحاول أن يجمع بين النقيضين ويجد أرضية توافقية تسع الجميع، فهو من جهة يبتعد عن خطاب التخوين، ويدرك أن الجيل الحالي قد ترعرع وشب في وضعية لا دخل له في تشكيلها، بل هو نفسه ضحية من ضحاياها، ويحتاج إلى قدر كبير من الرفق والملاينة والتلطف حتى يعي مسؤولياته في تغير الواقع، كما يجب أن يقنع أن التغيير المنشود لن يخل بمصالحه، بل يهيئ الأجواء المناسبة ليعيش أحفادنا متصالحين بينهم في وئام وانسجام ومتصالحين مع ذواتهم ومع ثقافتهم وهويتهم.
وفي نفس الوقت يتوجه الخطاب للفريق المستعجل أن السير على رجلين خير من السير بعرج… وأننا نحتاج إلى التوأدة والتأني حتى نسير في ركب واحد، وأنه لا مجال لإلغاء طيف واسع من أبناء الوطن، بل لا بد من احتوائه وإقناعه بطريقة عملية وواقعية: أن جميع أبناء هذا الوطن يمكن أن يركبو جميعا في سفينةالأصالة ويرفعوا سقوف وطنهم بيد واحدة غير مرتعشة ولا متخاذلة، وأن جميع الأمم التي ارتقت لم تنل رقيها بلغة ولا ثقافة مستعمرها، بل نالت الحظوة والتقدم بلغة آبائها وأجدادها.