محاولة وساطة بين “العلميين” و”الأدبيين”…/د.اسلكو أحمد إزيد بيه
محاولة وساطة بين “العلميين” و”الأدبيين”…
أتابع باهتمام كبير السجال الدائر حاليا بين بعض “الأدبيين” و”العلميين”، على وسائل التواصل الاجتماعي ؛ لقد حاولت جاهدا -ودون جدوى!- التعرف على “الشرارة” الأولى التي تسببت في هذا السجال الذي لا يخلو من الفائدة والإثارة الفكرية والإعلامية والطرافة أحيانا…
ولأكون صريحا، أعتقد أن السجال بين “العلميين” و”الأدبيين” يمكن اعتباره “حوار صمٍّ” ؛ وكما هو معروف، فإنه من الخطإ “التمثيل البياني لمتغيرتين مختلفتين على نفس السلم”! فسلم تقييم العلوم المجردة يختلف جذريا عن سلم تقييم الآداب، ومنه نفهم أهمية التسامح والاحترام المتبادل بين التخصصين الرئيسيين. ففي الوقت الذي يتم فيه تدريب الطالب “العلمي” سنوات وسنوات على أهمية الدقة الحرفية (أحادية الدلالة) باستعمال لغة جافة ومحدودة المفردات والتراكيب طبقا لقواعد منطقية صارمة ولمنهج يغلِّب الفهم على الحفظ، يتم تدريب الطالب “الأدبي” -حسب اعتقادي- سنوات وسنوات على أنواع الأوجه البلاغية وغزارة اللغة و أهمية الحفظ وتحرير الخيال. فوقت التأهيل الطويل هذا يشكل، في تصوري، مبررا كافيا للاحترام المتبادل بين الفئتين.
ويمكن اعتبار العلوم البحتة دكتاتورية فكريا، مقارنة بالآداب التي تبدو لي أكثر تحررية المقاصد ؛ ويمكن التأكد من ذلك من خلال دراسة الميول السلوكي للأفراد، إذ تغلب الانطوائية على ذوي التخصصات العلمية، بينما يبدو زملاؤهم الأدبيون أكثر انفتاحا معدلا. وكدليل على ما سبق، فعدد ذوي التخصصات الأدبية داخل الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني وتحت أضواء الكاميرات وفي صفحات المجلات وعلى منصات التواصل الاجتماعي، أضعاف مضاعفة لعدد نظرائهم من ذوي التخصصات العلمية.
وبالطبع يحق لنا أن نتساءل موضوعيا عن السبب الكامن وراء التفاوت الكبير (في بلادنا) بين أعداد تلاميذ وطلاب الشعب الأدبية وأعداد نظرائهم في الشعب العلمية. فهل يتعلق الأمر بنمو متفاوت لمنطقة معينة من الدماغ لدى الإنسان؟ أم أن للمعطيات الثقافية والبيئية دورا في حسم الميول الأرجح (أدبي أو علمي) لدى هذا الشخص أو ذاك؟ أم أن للظاهرة أسبابا أخرى؟
يعلمنا التاريخ البشري الطويل الأهمية الكبيرة لوجهي العملة المعرفية ؛ كما ينبئنا هذا التاريخ بحقب ذهبية على التعاون والتكامل والتلاقح بين العلوم والآداب.
شخصيا أفخر بالمدرسة الفقهية الشنقيطية وبالتميز الشعري في هذه الربوع، ثمرتا جهود مضنية تراكمت جيلا بعد جيل ؛ وأتمنى أن يلتحق مجال “السرديات” سريعا بالركب. ورغم جهود الحكومات المتتالية منذ الاستقلال، لم نستطع بعد بناء مدرسة علمية متميزة لحداثة عهد مجتمعنا ببعض التخصصات العلمية ولعدم ملاءمة الوسائل ولأسباب بنيوية وثقافية أخرى، إلا أن تصنيفا موضوعيا لدول الجوار في المجال العلمي، سيجعل بلادنا في رتبة مشرفة تماما.
لا أحد يشكك في أهمية التفكير العلمي والمنطقي، كما أنه لا أحد يشكك في أهمية الخيال الأدبي وجمالياته. فعالم بلا أدباء، عالم جاف وكئيب، وعالم بلا “علميين” عالم يجهل التفاصيل الموضوعية ويحتقرها.
في الأخير، سأورد مثالين فقط لشرح صعوبة التقييم المتبادل بين “العلميين” و”الأدبيين”.
المثال الأول (أدبي)
من أجمل وأبلغ أبيات الشعر العربي :
“مكر مفر مقبل مدبر معا#كجلمود صخر حطه السيل من علِ”
عندما يقرأ “العلمي” هذا البيت، فأول ما سيخطر بباله هو “تناقض” صفات المبالغة (“معا”)، وسيصطدم رأسا بكاف التشبيه، لأن قانون الجاذبية يمنع “الجلمود” من “الكر والفر ” ومن “الإقبال والإدبار”.
المثال الثاني (علمي)
من “السهل الممتنع” والأهم نظريا وتطبيقيا، من وجهة نظري، في مجال الرياضيات، المساواة أسفله والتي أثبتها عالم روسي في بحث لم يتجاوز ثلاث صفحات… عندما يطلع “أدبي” على هذه الرموز المبهمة، فردة فعله ستكون المرور بأسرع وقت ممكن إلى ما هو أكثر فائدة…
ودرءا لمفسدة شقاق بين “الأدبيين” (الأكثرية) و”العلميين” (الأقلية)، فإن مبادئ الديمقراطية وقواعد الحكمة تقتضي تفهم “العلميين” لنواميس الممارسة الأدبية ؛ كما تقتضي المصلحة العامة أن يأخذ “الأدبيون” الهواجس المشروعة لدى “العلميين” في الحسبان، وذلك بناء على أن “الصلح سيد الأحكام”.