نحن و السنغال حرب باردة و منافع ضرورية /د.حماه الله السالم
الجغرافيا توجه التاريخ وهو بدوره ميدان الإستراتيجية، ولأنه لا يمكن تغيير الجغرافيا فيجب إذن تحمل الجيران المزعجين، وبناء شراكة مرنة لمواجهة الوضع الجيو ـ سياسي المعقد في الحدود الجنوبية على طول الخط الممتد من نهر السنغال إلى منحنى نهر النيجر. ويبقى التوجه شرقا في اتجاه النيجر ـ تشاد ـ السودان ـ إثيوبيا، فضاء مفتوحا ومناسبا لموريتانيا.
من يفكر في حرب موريتانية ـ سنغالية، من الموريتانيين أو من السنغاليين، فهو جاهل بالتاريخ والجغرافية، وبمصالح الطرفين. لكن العلاقة مع الجار السنغالي يجب أن تظل في حدود المنافع والجوار العادي، وأن لا تصبح أبدا علاقات متينة مبنية على الثقة، المفقودة أصلا، بل يجب أن تظل دواما علاقات طبيعية في ظل “حرب باردة” حقيقية بين البلدين مستمرة منذ الاستقلال، وستظل مستمرة، لن يذوب جليدها ولن يشتعل أوارها.
يمتلك السنغال نخبة حقيقية يشْرُكها في الرأي ويدعمها في البحث والتفكير، ولديه رأي عام محترم وفاعل في توجيه السياسات العامة، وبالطبع لا يعاني هذا البلد أية أزمة هوية، بل رسخ تدريجيا “إجماعا” توافقيا على المسألة الثقافية لغة وهوية وثقافة، ولا يخفي مواقفه تجاه جاره اللدود (موريتانيا) بل ينتقدها ويفرض عليها مطالبه وينتزع منها المنافع في مشاريع النهر، ولا يجد مفاوضا موريتانيا جديا بل ربما عملاء وانتهازيين، وينافسها خليجيا وإفريقيا، ويحقق على حسابها تنمية متوازنة في الزراعة والكهرباء بل ويفوقها في التعليم والتربية والبنية الأساسية.
وقد ظل الوضع العام في صالح السنغال، وما يزال جزئيا، لكن الوضع أصبح أكثر تعقيدا بعد أن ارتكب النظام السنغالي، بغض النظر عن الطرف الفاعل، خطيئة تاريخية بذبح الموريتانيين واستباحة أموالهم، ثم لم يعتذر عن تلك الخطيئة، وكان على نظام موريتانيا وقتها أن لا يقبل من السنغال صرفا ولا عدلا قبل الاعتذار العلني والتعويض الكامل، لكنه رضي بالعرض الأدنى تحت الضغط الفرنسي، وتم إلغاء كل شيئ في جلسة روتينية بين ممثلي الطرفين تحت “رعاية” إدارة الأمن الخارجي ومكافحة التجسس الفرنسية. وذهبت دماء الموريتانيين وأموالهم وربما أعراضهم أدراج الرياح في عهد ولد الطايع رغم مواقفه الصلبة قبل الأزمة.
خرج السنغال بدون خسائر اقتصادية أو دولية، لرداءة الدبلوماسية الموريتانية ولمرْكزة كل شيئ في يد الرئيس وبسبب خزي بعض الأنظمة العربية ونفاق بعض الموريتانيين البيضان، لكنه خسر ثقة الموريتانيين دولة وشعبا، رغم أن بعضهم، لضعف ذاكرتهم، رجعوا إلى عادتهم القديمة في الرعي والتجارة في تلك الربوع التي سالت فيها دماؤهم أنهارا، في ظل تخاذل حكومة بلدهم عن حمايتهم ورعايتهم. ما يلزم اليوم أولي البصائر في هذه البلاد بالسعي إلى كسر الحلقة الجهنمية التي تفرض على سكان جنوب موريتانيا، منذ قرون، الرعي في مالي والسنغال والاعتماد على الحبوب المجلوبة من تلك البلاد، وأيضا إلغاء أي دور للغة الفرنسية في الإدارة والتعليم في موريتانيا التي صادقت أخيرا على اتفاقية تلزمها باعتماد شهاداتها وترقية أكادمييها في غرب أفريقيا التي انسحبت منها قبل عقود، وهو تصرف يمس السيادة ويرسخ التبعية للسنغال وفرنسا ويجري في ظل النظام الحالي المتشدق بالمقاومة، وبأيدي عملاء فرنسا الكارهين لكلما هو عربي وبيضاني والحالمين بمستقبل أفضل بدعم من الأجنبي وابتزاز المجتمع المغيّب والنظام المتخبط؟ تحقيق ذلك الاستقلال الغذائي والثقافي والإداري هو مسعى أكثر عقلانية وفائدة من امتلاك سلاح نووي.
أما السعي إلى “انسحاب” استراتيجي عربي نحو الشمال لمواجهة انهيار في الجنوب، فهو حل لن يقبله أحد، لأنه من قبيل الحلول الانتحارية التي يبرع فيها بعض المثقفين العرب الغيورين قطعا على قوميتهم، لكن بوصلة تفكيرهم تتجه رغما عنهم إلى الشمال الغربي دائما.
يفرض الجوار تبادل المنافع وتسوية المشاكل والتنازل المتبادل، وأيضا المواقف الحذرة، لاسيما في التسليح و الغاز، وهما اليوم ميدان التنافس والصراع الخفي وربما العلني.
تدشين ميناء انجاكو وهو قاعدة بحرية عسكرية على مرمى حجر من السنغال، حق لموريتانيا لحماية حدودها البحرية والنهرية الجنوبية، ولا يتعارض مع حسن الجوار القائم على “السلم” و تبادل المنافع، لكن “الحرب الباردة” يجب أن تظل هي القاعدة التي تحكم علاقتنا مع الجوار السنغالي الذي ينفذ تلك السياسة بامتياز: تحريك الولاءات النهرية داخل موريتانيا، والتهديد الدعائي الدوري بالحق في شمال الضفة… وإن كانت الديموغرافيا القلقة قد تدفع “بالحرب الباردة” إلى أن تتحول ذات يوم إلى واقع مفروض لا يمكن الفكاك منه، ربما يكون مواجهة عسكرية مع بلد تزداد الديموغرافية فيه سرعة، وقد يجد نفسه مرغما على البحث عن فضاء أكثر اتساعا لن يجده إلا في الشمال العربي المزعج ولاسيما في المجال النهري الذي يشكل البطن الرخوة في الجغرافيا السياسية الموريتانية؛ يجب على موريتانيا أن تحسب ألف حساب لهذه الحقيقية المرة.
يستحيل أن يكون إنشاء الميناء بتمويل ذاتي من الخزينة الموريتانية؟ لأن المبلغ المعلن (350 مليون دولار)، يفوق مبلغا سابقا يناهز 199 مليون دولار عجزت الحكومة الموريتانية عن الالتزام به لتنفيذ صرف صحي مستعجل ومصيري لإنقاذ عاصمة البلاد التي تواجه كارثة بيئة حقيقية وتم إلغاء الصفقة.
تمويل الميناء صيني بدأ وختاما، وقد يتحول إلى قاعدة عسكرية متقدمة للصينيين على المحيط الأطلسي. هذا الأمر يجب أن يشعر الموريتانيين بالارتياح الكامل، لأنه في عالم الكبار لم يبق لنا من حليف دولي موثوق غير الصين الشعبية، أما روسيا الاتحادية التي هي شريك عادي فقد عرفت حليفها الإقليمي الحقيقي وهو الجزائر. أما العلاقات مع الولايات المتحدة فيجب أن تتطور وتتعمق ولكن ليس على حساب تلك العلاقة الإستراتيجية مع الطرف الصيني.
العلاقات مع فرنسا يجب أن تتوارى إلى الخلف بل وتتراجع لتكون علاقة عادية مثل علاقاتنا مع أطراف أوروبية أخرى أكثر فائدة مثل إسبانيا وألمانيا وحتى النرويج؟
الخطوة التسليحية الموريتانية أكثر من عادية، لكن بلاء موريتانيا في أنظمتها التي تحتقر الجميع نخبة وعامة، ولا تمتلك نفسا طويلا في الحرب والسلم أو موقفا معلنا واضحا مبينا من الهوية والتاريخ، بل تتخذ كل أولئك مطية لمآرب وقتية زائلة.