أين المعارضة! / محمدو ولد البخاري عابدين
مبدئيا لست أنا صاحب هذا السؤال لأنني أعرف أين المعارضة، فالسؤال طرحه أحدهم قبل أيام محاولة منه التماس العذر للمعارضة، وردا بواسطة كفه لسيل الأسئلة الجارف حول اختفائها من المشهد رغم أن النظام الذي كانت تقارعه لم يغب سوى رأسه، هذا السؤال ذكرني بسؤال آخر طرحه أحدهم أيضا قبل أيام على صفحته على الفيسبوك متسائلا عن فرقة راب موريتانية ظلت طيلة عشرية الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز تسجل أغان منتقدة لأوضاع المواطنين الصحية والمعيشية، مستغربا اختفاء هذه الفرقة اليوم وتوقفها عن تسجيل تلك الأغاني رغم أن أوضاع المواطنين، يقول، إن لم تكن ازدادت سوءا من حيث الارتفاع المتصاعد يوميا للأسعار، ومن حيث الحوادث الإجرامية، ومن حيث بقاء نسب البطالة على حالها، فإنها أبدا لم تتحسن عما كانت عليه.
ناهيك عن ( ظهر الشور ) المعهود لدى هذه الفرقة، أي الفساد والتسيب الإداري والمحسوبية والزبونية التي هي ظواهر لم يطرأ عليها اليوم سوى أنها أصبحت علنية يتبجح بها أصحابها، حيث عدنا إلى فترة ما قبل العشرية الماضية في طريقة خلق المسوغات لصرف الموارد والميزنيات دون أهداف، سوى تلك الأهداف التي يحددها المسؤولون والمسيرون خدمة لجيوبهم، مستفيدين من المقاربة التي يتغنون بها اليوم والمتمثلة في لا مركزية التسيير وترك الحبل على الغراب للمسيرين في صرف ميزانياتهم، وهي المقاربة التي وإن كانت تصلح في بلدان أخرى حيث الشعور الوطني والوازع الأخلاقي وقوة ونجاعة الرقابة فإنها، ولغياب هذه القيم والمعايير عندنا، تمثل معول هدم لكل سياسات وبرامج التنمية، وضياعا للفرص والجهود، بالضبط كالفرص والجهود التي ضاعت على طول ما مضى من عمر دولتنا مما جعلنا لا نزال وإلى اليوم مشغولين بالأولويات والأساسيات!
المتسائل عن اختفاء فرقة الراب هذه وجد العشرات من التعليقات على منشوره كلها وضعت له النقاط على الحروف حول أسباب هذا الاختفاء، وأن ليس لا علاقة له بتحسن الأوضاع المعيشية للمواطنين، ولا باختفاء مظاهر الفساد والزبونية والمحسوبية في التسيير، وكنت شخصيا أول المعلقين على تساؤله قائلا إن القضية ليست إشكالية وليست بكل ذلك التعقيد، فالكل يعرف لماذا نشطت تلك الفرقة في تسجيل تلك الأغاني بالأمس ولماذا توقفت اليوم، وقد جاء كل المعلقين على الحافر معي في تعليقاتهم، وأتمنى أن يكون المتسائل وجد الجواب على تساؤله واستغرابه إذا كان فعلا لم يكن مدركا لحقيقة سؤال كهذا يؤرقه، فما كنت أعتقد أن هناك من لا يدرك تلك الحقيقة.
أما السائل أين المعارضة؟ فبعد أن حاول إقناع الناس بأن المعارضة ناضلت في السابق من أجل الحصول على أصوات المواطنين فها هو فلان، يقول، ناضل وترشح ولم تعطوه أصواتكم، وفلان ناضل هو الآخر وترشح ولم تعطوه أصواتكم! وذلك بعد أن كنا نعتقد أن النضال الحقيقي هو ذلك النضال المرتبط بالمبادئ والأهداف العامة، يموت قادته مسلمين المشاعل لمن يخلفهم في النضال إلى أن يتحقق كل أوجوهر تلك الأهداف العامة وتتجسد تلك المبادئ، فذلك هو دأب المناضلين الحقيقيين ممن عاصرناهم أومن قرأنا عنهم أو وصلتنا سيرهم، حتى أن بعض ألئك المناضلين كانوا يمتنعون عن التقدم لأي مناصب معتبرين ذلك بمثابة نهاية لنضالهم.
تابع يقول إن المعارضة قد حققت بتخليها عن الاحتجاجات ما لم تحققه من مطالبها طيلة عشر سنوات من هذه الإحتجاجات، فقد تشكلت محكمة العدل السامية، وصادق البرلمان على قانون الجنسية، وتم تأجيل قانون الرموز..! أما أنا فقد فتشت في أرشيف احتجاجات المعارضة طيلة العشرية الماضية، وفي لافتاتها المرفوعة في مهرجانتها، وفتشت في كل بياناتها وفي تسجيلات مؤتمراتها الصحفية ومقابلاتها، ولم أعثر على أي مطالب لها بتشكيل محكمة العدل السامية، ولا عن قانون الجنسية، ولا عن قانون الرموز الذي هو قانون مستجد بعد وضع المعارضة لأسلحتها واختفائها من الساحة، وحتى هذا القانون ظهر أيضا أن المعارضة لم تشعر به ولم تعلق عليه، بمن فيها المتسائل أين المعارضة نفسه، إلا بعد نداءات وانتقادات للقانون وتحذيرات من تبنيه جاءت من جهات إعلامية وحقوقية، عندها فقط استيقظت المعارضة وأصدرت انتقاداتها الخجولة حول القانون.
احتجت المعارضة وسارت واعتصمت وأرعدت وأمطرت انتقادات وبيانات لاذعة طيلة ثلاثة عقود دون أن تحقق بذلك شيئا كما يقول المتسائل أين المعارضة؟ ( كانوا يقولون لنا إن كل ما تحقق في البلد من إصلاحات سياسية واقتصادية وحقوقية وحرياتية كان بفضل نضالات المعارضة ) ثم يقولون اليوم إنها، أي المعرضة، لم تحقق أي شيئ بالنضال والاحتجاجات طيلة عقود، وأنها بجنوحها اليوم للتهدئة حققت ما عجزت عن تحقيقة بالنضال والاحتجاجات، الله أكبر! فقد حققت المعارضة بالتهدئة والتواري عن الأنظار خلال سنتين فقط ما إن لو كانت تعلم الغيب لتخلت عن النضال طيلة عقود لتحقيقه دون جهد نظرا لتكلفة وعدمية ذلك النضال و ” عِظم ” ما حققته بالتخلي عنه!
ولأنني وكما سبق وقلت فتشت في تاريخ مطالب المعارضة عبر تاريخها ولم أجد أي مطالب لها بما يقدمه المتسائل أين المعارضة؟ كحصيلة حققتها بالتهدئة، أي إنشاء محكمة العدل السامية، والمصادقة على قانون الجنسية، وتأجيل قانون الرموز، فرغم أنني لم أجد أية مطالب لها من هذا النوع إلا إنني لن أطلق حكما قبل أن آخذ رأيكم أنتم أيضا وأسألكم هل سمعتم أو رأيتم يوما مطالب للمعارضة من هذا القبيل في احتجاجاتها أومسيراتها، أومهرجاناتها، أولافتاتها المرفوعة، أو مؤتمراتها الصحفية، أو مقابلاتها، أو شروطها وممهداتها للحوار!
ما كنا نسمعه ونراه منها هو فقط الشعارات والاحتجاجات ضد الفساد، وارتفاع أسعار المواد الغذائية والكّازوال، وضد عطش المناطق، وتدهور الصحة والتعليم، وضد القمع وانتهاك الحريات، وفرض التغيير، والرضوخ للحوار، والتخلص من حكم العسكر، والقطيعة النهائية مع ممارسات الماضي، والانتخابات الشفافة والنزيهة.. وعلاوة على أن ” المكاسب العظيمة ” التي حققتها المعارضة بالتهدئة والمتمثلة في محكمة العدل السامية، وقانون الجنسية، وقانون الرموز لم نجدها يوما كمطالب ملحة مرفوعة في احتجاجاتها، فإنها أيضا لا تمت بصلة للحياة اليومية للمواطنين، واستطلعوا آراءهم إن شئتم وستجدون أن 99% منهم لا علم لهم بالمصادقة على هذه القوانين ولا تهمهم، لكنكم ستجدون أنهم يشعرون بأن الأسعار تضاعفت ما بين 50 إلى 60% وأن الحل الوحيد للتصدي للهيب ارتفاعها كان اللجوء للإحياء الجزئي لحوانيت ” أمل ” التي كانت المعارضة تعتبرها إهانة للمواطنين!
وستجدون أن المطلعين منهم يدركون أن الفساد وأخواته من رشوة وزبونية ومحسوبية على أشدهم اليوم، ويكفينا مثال واحد هو أن من تحدث لنا عن الاختلالات في تسيير مليارات صندوق كورونا هو الرئيس وليست المعارضة التي هي ( يا بره ) ممثلة في تسييره، وعندما يعترف الرئيس باختلالات في تسيير مرفق فمعني ذلك أن ما خفى أعظم، ولينتهي الأمر على ذلك الاعتراف دون تحقيق ولا مساءلة على ضوء تلك الاختلالات المُعترف بها!
ومعروفة هي وضعية الحريات اليوم بالتوقيف اليومي للصحفيين والمدونين والتبليغ عن حساباتهم وتعطيلها، والإقالات على إثر تسجيل في خلوة، وقمع ومنع التظاهر والاحتجاج بحجة ظروف الجائحة، لكن ذلك لا ينطبق على نشاطات الحزب الحاكم الصائل والجائل في كل المناطق اجتماعات ومهرجانات، ولا ينطبق أيضا على زيارات الرئيس التي كانت المعارضة تسميها كرنفالات..!
أيضا كل المناطق التي كانت عطشاء لا تزال عطشاء، والحاكم عسكري، وممارسات الماضي هي هي، والحوار هو موضوع الساعة اليوم، والغريب أن المعارضة كانت في السابق تُدعى للحوار بلا شروط وترفض، والأغرب هو أن أشد المتمسكين من أطرافها بالحوار الشامل بضمانات وممهدات لا تنازل عنها، هم اليوم أشد المتحمسين لمجرد تشاور بلا ضمانات ولا شروط مما أدى لانقسامها أو انقسام انقساماتها، أما الانتخابات الشفافة والنزيهة فآخر انتخابات تجري في البلاد كانت الانتخابات الرئاسية ولسنا نحن من طعن فيها، بل كانت المعارضة هي التي لم يتخلف أي من أطرافها عن الإجماع على تزوير تلك الانتخبات وعدم الاعتراف بنتائجها.
ومثلما وجد المتسائل عن سبب احتفاء فرقة الراب الردود الشافية على سبب اختفائها، يجد المتسائلون عن سبب اختفاء المعارضة أيضا الردود، وتجدها المعارضة نفسها التي ما إن يظهر أي من أطرافها اليوم في بيان مرتعش تفاديا لإزعاج النظام، أو تصريح خجول طمعا في ما عنده، إلا وانهالت عليه الردود والتعليقات من أنصاره قبل خصومه بكلام يصب في معنى واحد هو لقد أنبأنا الله من أخباركم، عرفناكم ولن تخدعونا مرة ثانية، وعليه فلا داعي ولا فائدة من هدر الجهد في تبرير اختفاء المعارضة من الساحة اليوم ومقايضتها شعاراتها ومواقفها بمصالحها، وخذلانها بذلك لأتباعها.
ولا يظنن أحد كذلك أن أنصار الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز، أو هو نفسه يسعون للإستعانة في قضيتهم مع النظام باحتجاجات المعارضة بل العكس، فقد خدمهم كثيرا اختفاء المعارضة وظهورها على حقيقتها بالنسبة لمن كانوا مؤمنين بها، أما هو فإنه أعرف العارفين بها، فقد عرفها وهي تحتج وتتظاهر وتتوعد طيلة فترة حكمه فما غير ذلك من الأمر شيئا، نفذ سياساته وأكمل مأموريتيه وقدم خليفة له وجه إليه أغلبيته وأنصاره وفاز، تاركا المعارضة تتشظى وتتنابز وتتبادل لكمات وركلات الغدر والتخوين، وتُراود الحاكم العسكري الذي اصطفت ضده عن نفسه للحصول منه على امتيازات! أبدا لن يلجأ ولد عبد العزيز للاستعانة بالمعارضة واحتجاجاتها في قضيته مهما وصل استهدافه ومضايقته، فيكفيه خدمة لقضيته استسلام وانكشاف من ظلوا يقارعونه طيلة عشريته.
وعليه فأمام المعارضة طريق واحد إذا أرادت إقناع الرأي العام بأسباب اختفائها وهو أن تعلنها وتقول لم نكن نعارض نظاما ولا حكامة ولا سياسات ولا ممارسات، كنا نعارض شخصا واحدا إسمه محمد ولد عبد العزيز وقد غادر السلطة، ووجدنا من ينتقم لنا منه ويشفي لنا فيه الغليل ولو إلى حين، ويشركنا لا في القرار ولا في رسم السياسات وإنما في المنافع والامتيازات وهذا ما كنا نبغ، أما غير ذلك من المبررات والأعذار فلا هي تصدقه عندما تقدمة ومن باب أحرى غيرها!