كيف تم اجهاض حراك النصرة للمطالبة بإعدام ولد امخيطير
سنعود ـ من خلال هذه الورقة الكاشفة ـ إلى حراك النصرة منذ انطلاقته وحتى يومنا هذا، وذلك لكشف بعض الأدوار التي لا علاقة لها بالنصرة، والتي لعبها بعض أولئك الذين أريد لهم أن يتصدروا واجهة هذا الحراك العفوي والمبارك، وقد تكون هذه العودة مهمة جدا في أيامنا هذه، والتي يتم فيها الحديث عن قرب إطلاق سراح كاتب المقال المسيئ.
حراك النصرة من “زعيم الأحباب” إلى “محامي الجناب”
في يوم 10 يناير من العام 2014 خرجت جماهير غفيرة إلى القصر الرئاسي مطالبة بمحاكمة كاتب المقال المسيء. كان الحشد كبيرا وعفويا، وكان لابد من فعل شيء ما لإفشال هذا الحراك الكبير الذي انخرطت فيه ـ وبشكل عفوي وفي وقت قياسي ـ أعداد ضخمة من الموريتانيين.
في ذلك اليوم اهتزت أسوار القصر الرئاسي بفعل الحشود الكبيرة، وأحس الرئيس بخطورة الأمر، فلم يكن منه إلا أن وضع عمامته الزرقاء، وخرج في الناس خطيبا، فقال :”أيها المواطنون، أيها المسلمون، أشكركم كل الشكر على تواجدكم في هذا المكان تنديدا بهذا الإجرام الذي اقترفه شخص في حق ديننا الإسلامي، دين دولتنا، دين الجمهورية الإسلامية الموريتانية. وكما أكدت لكم في الماضي أؤكد لكم اليوم مجددا أنها ليست دولة علمانية، وأن ما قمتم به اليوم هو أقل ما يمكن القيام به، رفضا لهذا الإجرام في حق ديننا الحنيف، وأطمئنكم أنني شخصيا والحكومة لن ندخر جهدا من أجل حماية هذا الدين ومقدساته، وعلى الجميع أن يفهموا أن هذه الدولة دولة إسلامية وأن الديمقراطية لا تعني المساس بالمقدسات.”
طمأن الرئيس تلك الحشود الكبيرة، وقدم لها وعودا مغرية، وذلك في وقت كان قد بدأ فيه العمل من أجل وضع خطة محكمة لإفشال هذا الحراك المقلق. ذلك هو ما سيظهر لاحقا.
وًضِعَت الخطة بإحكام، وكانت تسعى إلى تحقيق هدفين في غاية الأهمية، أولهما كان في غاية الاستعجال، وهو أن يتم توجيه الحشود إلى مكان آخر غير القصر الرئاسي، فقد كان من المقلق أن تتجه مسيرة أخرى بمثل ذلك الحشد الكبير إلى القصر الرئاسي. أما الهدف الثاني، فإنه لم يكن في غاية الاستعجال، ولكنه كان في غاية الأهمية، ويتمثل هذا الهدف في زرع الشقاق والخلاف بين الجموع المكونة لحراك النصرة.
بدأ تنفيذ الخطة بشكل عاجل، وتم إطلاق إشاعة تقول بقدوم الأستاذ الجليل “محمد ولد سيدي يحيى”، ففتحت له طريق بين الحشود. لم يظهر “ولد سيدي يحيى”، وإنما ظهرت سيارة تحمل جماعة غير معروفة كان من بينها من يلوح بيده للمحتجين، وهذه الجماعة التي ظهرت فجأة هي التي ستتسمى مستقبلا بأحباب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسيوكل لزعيمها مهمة إفشال الحراك.
ولأن الحراك كان عفويا، ولأنه لم يكن منظما، ولم تكن له قيادات ميدانية معروفة، فقد تمكن زعيم الأحباب وجماعته من الاستيلاء على قيادة الحراك، ومن تحقيق الأهداف المرسومة. كانت تلك المسيرة هي أول وآخر مسيرة للحراك تتجه إلى القصر الرئاسي، وقد اتجهت كل المسيرات التي أعقبتها إلى مسجد ابن عباس، وقد كان ذلك بمبادرة وبأوامر من “زعيم الأحباب”، وتم العمل من بعد ذلك على الانحراف بالحراك من حراك يطالب بمحاكمة كاتب المقال المسيئ، ولا شيء غير ذلك، إلى حراك ينشغل بحرق هواتف “سامسينغ” وألبان “تفسك” وبالتهجم على “ولد شدو” و”منت المختار” وهو ما تسبب في تفرق وتشتت المناصرين.
بعد انحراف الحراك عن مساره، وبعد تشتت الأنصار وتفرقهم اعتقدت السلطة الحاكمة بأن الوقت قد حان للاستجابة إلى ضغوط الحكومات والمنظمات الغربية المطالبة بتبرئة كاتب المقال المسيء.
في يوم 15 نوفمبر 2016 تم فتح ملف المسيء من جديد، وهنا أيضا هبت جماهير النصرة بشكل عفوي، ويومها شعرت السلطة بأن حراك النصرة لم يمت، ومن هنا كان لابد من رسم خطة جديدة لتفريق وتشتيت جماهير هذا الحراك الذي ظهر بشكل أقوى في موسمه الثاني، والذي تمكن في يوم الثلاثاء 31 يناير 2017 من حشد أكبر تجمع جماهيري عرفته موريتانيا في كل تاريخها.
هنا اضطرت السلطة إلى أن تعيد نفس الأسلوب تقريبا، وهنا أوكلت المهمة إلى “محامي الجناب”، وذلك بعد أن احترقت ورقة “زعيم الأحباب”. يمكنكم أن تلاحظوا بأن كلا من الرجلين قد اختار لقبا جذابا قادرا على أن يثير عواطف جماهير النصرة، فالأول سمى نفسه بزعيم أحباب الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام، والثاني سمى نفسه بمحامي الجناب النبوي الشريف. ويمكنكم أن تلاحظوا أيضا بأن كلا من الرجلين قد فتحت له القنوات التلفزيونية الحرة ذات العلاقة القوية بالسلطة، وتم تقديمه على أنه هو الناطق الرسمي والوحيد باسم حراك النصرة. أما التشابه الثالث بينهما، فيتمثل في أن كلا منهما شخص صدامي، وأن السلطة قد سمحت لكل واحد منهما بأن يسيئ إلى الآخرين، وأن يتحدث دون حساب ودون ضوابط، وكان كل ذلك من أجل رفع أسهمها في حراك النصرة، وخاصة عند البسطاء من الناس، فمثل ذلك سيساعدهما في تنفيذ المهام المرسومة لهما عندما تحين لحظة التنفيذ.
عُرف المحامي بخطابه الصدامي الذي لم يكن في صالح حراك النصرة، وقد حاول أن يقسم المجتمع الموريتاني إلى فسطاطين : فسطاط خير لا شر فيه يشارك في أنشطة النصرة، وفسطاط شر لا خير فيه لم يشارك في تلك الأنشطة، ولا يخفى على أي أحد خطورة هذا التصنيف وعدم دقته. كما حاول المحامي أن يذكي النعرات القبلية والجهوية والطرقية لزرع الخلاف بين مكونات النصرة. تحدث المحامي عن حب آل البيت ـ في أوقات حاسمة من مسار الحراك ـ وخص رئيس الدولة ورئيس الحزب الحاكم عند حديثه عن آل البيت، وتحدث عن وجود المخابرات في واجهة الحراك، وهو الأعلم بحقيقة وجودها، وقد حاول المحامي أن يستفيد من تلك الحقيقة، وأن يشوه من خلالها حراك النصرة، وأن يقدمه على أنه مجرد شلة من “المخابرات العليا” التي تتصارع مع “المخابرات السفلى”.
تلكم كانت بعض المهام التي أداها “محامي الجناب” من أجل إفشال الحراك وتفريق مكوناته، وتبقى المهمة الأخطر التي تولى تنفيذها لصالح السلطة هي أنه تمكن من إخراج السلطة من ورطة خطيرة جدا، وكان ذلك في يوم الثلاثاء 31 يناير 2017 الذي اجتمعت فيه حشود بشرية غير مسبوقة.
أصرت السلطة في ذلك اليوم على أن تتخذ محكمتها العليا قرارا لصالح كاتب المقال المسيئ، للاستفادة منه مستقبلا، ولكن المشكلة كانت تكمن في ذلك الوقت في خطورة ردة الفعل التي يمكن أن يقوم بها عشرات الآلاف من المحتجين عندما يتبين لهم بأن المحكمة العليا قد اتخذت قرارا لصالح كاتب المقال المسيئ. هنا جاء دور “محامي الجناب” الذي خدع عشرات الآلاف من المحتجين وكذب عليهم، وقال لهم بأن القرار الذي اتخذته المحكمة في ذلك اليوم كان في صالح حراك النصرة، وبذلك تم ضمان تفرق تلك الحشود الضخمة دون تسجيل ردود أفعال غير متحكم فيها.
هكذا أدارت المخابرات العليا أو السفلى الملف، فمن “زعيم الأحباب” الذي احترقت ورقته في الموسم الأول جاء الدور على “محامي الجناب” الذي احترقت ورقته في الموسم الثاني، والذي أصبح يجاهر اليوم بلقاءاته في السفارات الغربية، وبدعواته المطالبة بوقف الاحتجاجات وترك القضاء يؤدي مهامه دون الضغط عليه.
الجمع بين النصرة والتحايل على أملاك المواطنين
لعل أخطر السهام الغادرة التي وُجِهت لحراك النصرة المبارك قد جاءت من الشيخ الرضا وأنصاره، فلم يكن من المعهود في هذه البلاد أن ينشغل العلماء والأولياء والصالحون بالتجارة، ولا يعني ذلك بأن العمل في التجارة لا يليق بالعلماء والأولياء والصالحين، وإنما يعني بأن الانشغال بها ليس من علامات الورع والتقى والزهد تلكم الصفات التي يُستحسن أن يتصف بها العلماء والصالحون. ويزداد الأمر خطورة إذا كانت هذه التجارة مشبوهة وقائمة على التحايل على ممتلكات الناس كما هو حال بالنسبة لعمليات الشراء والبيع التي كان يمارسها مكتب الشيخ الرضا، والتي تسببت في المحصلة النهائية في حصول كارثة حقيقية تنذر بمشاكل اجتماعية وأمنية ستبقى مفتوحة على كل الاحتمالات. أخطر ما في الأمر هو أن المتسبب في حصول هذه الكارثة غير المسبوقة في بلادنا، هو من كان يتصدر حراك النصرة، ألا يُشكل ذلك أكبر إساءة إلى حراك النصرة؟
بالإضافة إلى ذلك فقد حاول الشيخ الرضا أن يُفشل مسيرة الثلاثاء الحاسم (20 ديسمبر 2016)، وذلك عندما طلب من مناصريه من خلال رسائل صوتية تم توزيعها بشكل واسع أن لا يشاركوا في تلك المسيرة لأنها غير مرخصة، كما حاولت السلطات الأمنية أن تفشل تلك المسيرة الحاسمة برفض ترخيصها، وبنشر عدد غير مسبوق من قوات الأمن لمنع أي تجمع في ساحة ابن عباس وفي الساحات المجاورة لها.
في يوم الثلاثاء 20 ديسمبر 2016 حاول الشيخ الرضا والجهات الأمنية أن يفشلا مسيرة الثلاثاء، ولكن الجموع البشرية الهادرة، وصمود النساء المناصرات في ذلك اليوم، أربك الجميع. ومنذ ذلك اليوم تأكدت الجهات الأمنية بأنه لا أحد يمكنه أن يوقف حراك النصرة : لا “زعيم الأحباب”، ولا “محامي الجناب”، ولا “رئيس المنتدى العالمي لنصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم”.
العلماء والدور المرتبك
من الطبيعي جدا أن يقود العلماء والفقهاء والأئمة أي حراك في هذه البلاد للدفاع عن عرض الرسول صلى الله عليه وسلم، ولذا فلم يكن غريبا أن يتصدر علماء موريتانيا وفقهاؤها وأئمتها وشيوخ محاظرها ودعاتها حراك النصرة، ولكن ما لم يكن طبيعيا هو أن تتغير مواقف وفتاوى العلماء والفقهاء والأئمة والدعاة من هذا الحراك تبعا لتغيرات مزاج الرئيس.
لقد أفتى جل علماء هذه البلاد ـ إن لم أقل كلهم ـ بوجوب قتل كاتب المقال المسيئ سواء تاب أو لم يتب، وتزامنت تلك الفتاوى مع الفترات التي كان يضع فيها الرئيس عمامته الزرقاء، ويقف فيها خطيبا بين الناس ليقول لهم بأن موريتانيا ليست دولة علمانية، ولكن لما اقترب موعد خروج الرئيس من السلطة، ولما نزع عمامته الزرقاء وأصبح يضع حسابا للمنظمات الغربية وللدول الغربية تغيرت فتوى بعض العلماء!
إنه من العجب العجاب أن تكون للمذهب المالكي فتوى في العام 2014 وأن تكون له فتوى أخرى في العام 2019.
لقد غاب العلماء عن مظاهرات ومسيرات الموسم الثاني للنصرة، وذلك لأن السلطة لم تخف عدم تحمسها لأنشطة هذا الموسم. بل أكثر من ذلك فقد أصدرت رابطة العلماء بيانا طالبت فيه بعدم المشاركة في “جمعة الغضب” غير المرخصة، وهي الجمعة التي خرجت فيها مسيرات عديدة رفضا للحكم المخفف والمسيئ الذي أصدرته استئنافية نواذيبو يوم “الخميس الأسود” الموافق 09 ـ 11 ـ 2017.
بعد “جمعة الغضب” التي كادت أن تخرج فيها الأمور عن السيطرة صادق مجلس الوزراء على مشروع قانون يعدل المادة 306، وتم الترخيص في يوم الخميس 16 ـ 11 ـ 2019 لتظاهرة باسم : رابطة العلماء الموريتانيين، و الاتحاد الوطني للائمة، و منتدى العلماء والأئمة لنصرة نبي الأمة، ورابطة حفاظ القرآن الكريم. وكان الغرض من هذه التظاهرة هو تثمين القرار بتعديل المادة 306، وشكر “أمير المؤمنين” على تعديل تلك المادة.
جاء العلماء والأئمة والفقهاء للتظاهرة المرخصة، وحاولوا أن يجعلوا من التظاهرة مناسبة لشكر “أمير المؤمنين”، ولكن جماهير النصرة أفشلت الخطة، فارتفعت الأصوات عالية بالمطالبة بتطبيق شرع الله في كاتب المقال المسيئ، واضطر كبار العلماء والفقهاء والمشايخ أن يتركوا المنصة في وقت مبكر، فجاءت من بعد ذلك قوى الأمن للقيام باللازم، أي التنكيل بجماهير النصرة واعتقال البعض منهم.
في ذلك اليوم ظهر ـ وبشكل جلي ـ بأن جماهير النصرة في واد، وأن واجهتها في واد آخر. المؤسف حقا هو أن بعض علمائنا الأجلاء لا يقدر خطورة ما يقوم به من انحياز للسلطان بدلا من الانحياز إلى الحق، ففي هذا الزمن الذي يكثر فيه الإلحاد والتهجم على المقدسات، ويحاول فيه كتاب ومدونو النصرة أن يقفوا ضد موجة الإلحاد والتهجم هذه. في هذا الزمن بالذات يُصر بعض العلماء على أن يضع نفسه في مواقف محرجة جدا ومربكة لمن يدافع عنه!
قبيل إطلاق سراح كاتب المقال المسيئ
اختارت السلطة فاصلة زمنية حساسة، تفصل بين مغادرة رئيس وقدوم آخر لإطلاق سراح كاتب المقال المسيئ، وربما تكون حساسية هذه اللحظة هي التي جعلت جماهير النصرة لا تدعو هذه المرة إلى الخروج ـ وبشكل واسع ـ في مسيرات رافضة لإطلاق سراح كاتب المقال المسيئ. هناك من بين جماهير النصرة من يخاف أن يكون القرار بإطلاق سراح كاتب المقال المسيئ في مثل هذا الوقت الحساس هو من أجل خروج تلك الاحتجاجات لإرباك المشهد، ولتحقيق مآرب أخرى قد لا تكون في صالح التداول السلمي على السلطة.
ومهما يكن من أمر فإن إطلاق سراح كاتب المقال المسيئ لن يكون خاتمة حسنة للرئيس ولد عبد العزيز، وسيهوي قطعا بلقب رئيس العمل الإسلامي، ولكن ـ في المقابل ـ فإن إطلاق سراح كاتب المقال المسيئ في مثل هذا الوقت سيكون في صالح الرئيس غزواني الذي سيغلق هذا الملف الحساس من قبل تسلمه للسلطة.
يبقى أن أقول للمتشفين والمستهزئين بأن أنشطة جماهير النصرة لم تذهب سدى، فقد شكلت هذه الأنشطة ضغطا على السلطة بالتوازي مع ضغط المنظمات والدول الغربية التي كانت تريد إطلاق سراح كاتب المقال المسيئ من أول يوم. كما أن هذه الأنشطة هي التي فرضت تعديل المادة 306، لتجعل كل من سيفكر مستقبلا في المساس بالمقدسات يتحسس رقبته خوفا من القتل. أما بالنسبة لكاتب المقال المسيئ، فلا أرى بأنه سيبقى في هذه البلاد بعد إطلاق سراحه، وربما يغادر إلى إحدى الدول الأوربية، وهنا قد يفتن من جديد في دينه، إن لم تكن توبته المعلنة توبة صادقة.
حفظ الله موريتانيا.
محمد الأمين ولد الفاظل