أقلام

جميل منصور يكتب عن العلمانية

 

يبدو أن بعض الطيبين يصر على الخلط بين المفاهيم، ويفرض على المتابعين فهما دون بينة ولابرهان.
العلمانية أواللائكية منهج معروف قائم على فصل الدين عن الحياة والقطيعة بين الدين والدولة، والقائلون بهذا التصور لايرون للدين دورا في توجيه وضبط الحياة العامة سياسة واقتصادا وتنمية…..
أما التمييز بين الدعوي والسياسي أوالديني والدنيوي فأمر آخر، له أصوله الشرعية الواضحة وضوابطه الفكرية الحاكمة، ومنطلقه أن التشريع الإسلامي اعتمد التفصيل في مجالات وفضل الإجمال في أخرى، فكان حظ العبادات الشعائرية والأحوال الشخصية والأخلاق وجانب من المعاملات مثلا، النشر والتفصيل، وكان حظ السياسة والاقتصاد والشأن العام المتغير من حال إلى حال، التركيز والإجمال، ومن هنا درج متأخرون بحثوا ودرسوا وقارنوا على استعمال مصطلح ” القيم السياسية” بدل “النظام السياسي” وقد سمعت د.عبد الكريم بكار في ندوة في اسطنبول يتكلم عن هذا الموضوع بفقه وتوازن.
وإذا عدنا إلى أهل التحقيف وذوي الثقافة الأصولية في تاريخ النظر الإسلامي سنجد ما يعضد هذه المقاربة، فهذا إمام الحرمين أبو المعالي الجويني في كتابه “الغياثي: غياث الأمم في التياث الظلم” يتحدث عن الخبط والتخليط وسببهما عند الخائضين في موضوع الإمامة: “والسبب الظاهر في ذلك أن معظم الخائضين في هذا الفن يبغون مسلك القطع في مجال الظن” ثم يؤكد: “و لامطمع في وجدان نص من كتاب الله تعالى في تفاصيل الإمامة، والخبر المتواتر معوز أيضا” ثم يختم الباب الثالث من كتاب الإمامة مقررا: “ومعظم مسائل الإمامة عرية عن مسلك القطع، خلية عن مدارك اليقين”
ولعل هذه الخلفية المنهجية هي التي جعلت صاحب الفروق الإمام شهاب الدين القرافي، يميز في التصرفات النبوية، ويبني على ذلك التصنيف مقاربة في التعامل معها قال رحمه الله في “الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام” : “وأما تصرفه صلى الله عليه وسلم بالإمامة فهو وصف زائد على النبوة والرسالة والفتياوالقضاء، لأن الإمام هو الذي فوضت إليه السياسة العامة في الخلائق، وضبط معاقد المصالح، ودرء المفاسد، وقمع الجناة، وقتل الطغاة، وتوطين العباد في البلاد، إلى غير ذلك مما هو من هذا الجنس” وفي تحقيقه لكتاب القرافي أورد د.عبد الفتاح أبوغده حديث مسلم عن تأبير النخل والذي قال فيه الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم “إنما أنا بشر، إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر” وأورد رواية عائشة وأنس وفيها “أنتم أعلم بأمر دنياكم”
ومعروف أن الإمام النووي قد بوب لحديث تأبير النخل بقوله(وجوب امتثال ما قاله شرعا، دون ما ذكره صلى الله عليه وسلم من معايش الدنيا على سبيل الرأي)
وهذا الفاصل – وليس الفصل – بين الفضاءات والمجالات حيث لكل فلسفة فهمه، وقاعدة التعامل معه مع اتحاد المرجعية وتناغم الإهداف العامة هو الذي جعل المحققين يضبطون الأمر فالعز بن عبد السلام واضح في حديثه عن المصالح ومصدر كل منها يقول رحمه الله: “أما مصالح الآخرة وأسبابها ومفاسدها وأسبابها، فلا تعرف إلا بالشرع فإن خفي منها شيء طلب من أدلة الشرع، وهي الكتاب والسنة، والإجماع، والقياس المعتبر، والاستدلال الصحيح، وأما مصالح الدنيا وأسبابها ومفاسدها وأسبابها، فمعروفة بالضرورات والتجارب والعادات والظنون المعتبرات، فإن خفي منها شيء من ذلك طلب من أدلته”
أما الإمام الشاطبي فاعتبر الأعمال نوعين “أن تكون من قبيل التعبدات” أو “أن تكون من قبيل العادات” وأكد أن الأصل في العادات “الالتفات إلى المعاني”
وهذا التفريق بين العادات والعبادات أو بين العبادي والمصلحي أو بين المطلوب ديانة والمطلوب قضاء أو بين الديني والمباح أو غير ذلك من المتقابلات التي ذكرها العلماء، إنما يهدف إلى وضع فاصل يميز بين فضائين يتمايزان ولا ينفصلان، يتكاملان ولا يندمجان. وفي الأدعية الواردة في الصحيح “اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي إليها معادي” ” اللهم إني أسألك العافية في ديني، ودنياي، ……”
إن الذين يصرون على فصل الدين عن الدولة في مقاربة علمانية تنتمي لفضاء حضاري آخر، يحرمون الدولة والسياسة من بركة الدين توجيها وضبطا وأخلقة، ومن المستعصي أن يجدوا لمقاربة كهذه أرضية في التصور الإسلامي الأصيل، فهؤلاء مشكلتهم مع الدين.
والذين يصرون على التماهي بين الدين والدولة ويسوون بين فلسفة الاسلام في السياسة وغيرها من المجالات حجما وحدا، ويستصحبون معهم أشكالا تاريخية تنتمي لوقتها أطرا وأدوات، يظلمون الدين ويصطدمون بطبيعة الدولة القائمة على المدنية والخدمة العامة، وهؤلاء مشكلتهم مع الدولة.
ومن هنا تحتاج السياسة إلى بركة الدين وتوجيه الدين وضبط الدين، ولكنها تبقى السياسة بكل مايعنيه ذلك من بشرية ومنزع اجتهادي وحاجة إلى التطوير والإبداع والتجديد
إذن الخلط بين السياسي والدعوي خطأ ينبغي تصحيحه، فالدعوة تجمع وهي لأهل الملة وأغلبها موجه للفرد صلاحا وتزكية وسمتا وإيجابية، ولذلك مكانها الأفضل منبر المسجد وكرسي التوجيه،والسياسة خلافية بطبعها، أسئلتها أكثر من أجوبتها، تحدياتها أوسع من فرصها، طبيعتها التحول ومقتضاها المرونة، موجهاتها في الشرع كثيرة، والتفصيل فيها قليل، ليس المنبر محلها ولاكرسي التوجيه لها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى