ولد منصور يكتب : ثلاث وقفات عن العمل السياسي
تابعت نقاشا مهما وثريا منذ حين حول الإسلاميين والعمل السياسي، بل شاركت فيه تعليقا على تدوينتين من حبيبين عزيزين، ولكن رأيت أن التوسع في الموضوع يقتضي بعض التأجيل حتى لايربط القراء والمتابعون الموضوع بالنقاش الذي دار حول التطبيع المغربي وسلوك حزب العدالة والتنمية، وهكذا بدا لي الآن أن إسهاما أوسع في هذا الحوار قد يكون متعينا لمن ظهرت له بوادر مقلقة في النقاش الماضي.
وقد اخترت أن أقف ثلاث وقفات مع هذا الموضوع : الأولى، تأسيس وتأصيل – الثانية، تأريخ وتقويم – الثالثة، تنزيل وتجسيد.
ويهمني في البداية أن أشير إلى أن هذا الموضوع عرف تباينا مبررا بين من يبحث عن أصل حاسم وهو متعذر، ومن يقدر في دائرة عفو بالغة التعقيد، بين من يستعجل الحصاد، فيسرع بالحكم سلبا لأن أولى النتائج غير مبشرة، ومن يصبر وينتظر مآلات التدرج والتراكم، وقد يستمرئ تلك الانتظارية على نحو مبالغ فيه ولا يخفى فيه منزع الاستقالة.
أولا : تأسيس وتأصيل :
من مسلمات وأبجديات التصور الاسلامي الوسطي، أن الإسلام يخاطب الإنسان في مختلف جوانب حياته وأن المسلم مطالب بالخضوع المتكامل والكامل “قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ، لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ” وأن الإيمان يتجسد في شعب تمتد من كلمة التوحيد إلى إماطة الأذى عن الطريق، جاء في الحديث المتفق عليه أن رسول الله ﷺ قال:” الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان” وفي حياة الناس والسياسي منها خاصة أذى كثير، إماطته من شعب الإيمان، ومن معروف ومشهور سيرة سيد الخلق صلى الله عليه وسلم أنه دعا وجاهد وأصلح وأقام دولة في أول استقرار للدعوة في المدينة المنورة، وبالجانب السياسي تتعلق أحكام كثيرة يخاطب بها الحاكمون ويحاسب عليها من يتولون شؤون الناس.
ويتكامل مع هذا البعد التأسيسي بعد آخر خلاصته أن الإسلام وإن شرع وأسس للأمر العام وشأن السياسة، فقد اعتمد الإجمال ووضع القواعد ووسع دائرة العفو، ومن حكمة الشارع وجميل خصائص الإسلام – وكلها جميلة – أنه فصل في العبادات الشعائرية والأخلاق وطائفة معتبرة من الجانب الاجتماعي إلى حد الجزئيات لغلبة الثبات وتعلق الأحكام بالتفاصيل، وأجمل في قضايا الشأن العام والسياسي منه خاصة لغلبة التغير والتجدد وأثر ما يستحدثه الناس في هذا المجال، وأحسن الدكتور عبد الكريم بكار في حديثه عن القيم السياسية الإسلامية لا النظام السياسي الإسلامي.
وقديما انتبه إمام الحرمين عبد الملك الجويني لهذا المعنى في جدل الإمامة فقال في الغياثي: غياث الأمم في التياث الظلم “ولا مطمع في وجدان نص من كتاب الله تعالى في تفاصيل الإمامة، والخبر المتواتر معوز أيضا” ص ٢٤٤ بل حسم في نهاية الباب الثالث من كتابه بما يشبه القاعدة المضطردة “ومعظم مسائل الإمامة عرية عن مسلك القطع، خلية عن مدارك اليقين” ص ٢٥٣
وحتى نفهم طبيعة وخصوصية الشأن السياسي، فقد شرح لنا الإمام شهاب الدين القرافي في كتابه ” الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام” أنواع التصرفات النبوية وميز منها تصرفه بالإمامة على نحو تظهر منه خصوصية هذا الجانب ودنيويته، فقال “وأما تصرفه صلى الله عليه وسلم بالإمامة، فهو وصف زائد على النبوة والرسالة والفتيا والقضاء، لأن الإمام هو الذي فوضت إليه السياسة العامة في الخلائق، وضبط معاقد المصالح، ودرء المفاسد، وقمع الجناة، وقتل الطغاة، وتوطين العباد في البلاد، إلى غير ذلك مما هو من هذا الجنس” ص ١٠٥
وكما يتميز شأن الإمامة عن غيره في الموجهات الشرعية، فإن العمل السياسي الهادف للتمكين لقيم الإسلام يتميز عن غيره من مسالك العمل الخادمة للدين الهادفة لنشره وسيادته، والظاهر والله أعلم أنه تغلب على الرؤية الإسلامية في هذا المجال المنهجية الإصلاحية التي تتبنى منطق التراكم وتنهج منهج التدرج وتستبعد الاستعجال وطرائق الإثارة والنزاع “ولكنكم قوم تستعجلون” .
لقد كان النظر إلى ميزان القوة وعدم تجاهله حاضرا في بداية الدعوة ومع النبي صلى الله عليه وسلم، فحينما كان يعرض على القبائل في الموسم كانت أسئلة أبي بكر الصديق دقيقة واضحة في هذا ” كيف القوة فيكم ” “كيف المنعة فيكم ” “كيف الحرب بينكم وبين عدوكم” وكان الجوار الاجتماعي والحماية القبلية ثم لاحقا الموادعات والمصالحات مظاهر دالة على قراءة الواقع وتوازناته والاستفادة منها لحماية الدعوة كسبا لصديق أو تأجيلا لصراع أو توظيفا له.
حينما يقول الحافظ ابن حجر “يرى السيف يعني كان يرى الخروج بالسيف على أئمة الجور وهذا مذهب للسلف قديم لكن أستقر الأمر على ترك ذلك لما رأوه قد أفضى إلى أشد منه ففي وقعة الحرة ووقعة بن الأشعث وغيرهما عظة لمن تدبر” فإنه يوضح أن مآلات الأفعال تحكم على الاختيارات، فتجنب سبيل القوة في التعاطي مع الحكام المنحرفين، خلاصة لمقاربة قومت التجارب ومآلاتها، وليس امتثالا لحكم شرعي قائم على نص محرم.
ولعل محاورة مشهورة بين الأمير الصالح المصلح عمر بن عبد العزيز وابنه المتحمس عبد الملك تعطينا صورة عن منهج التدرج حتى من قبل حاكم يحكم لا داعية إصلاح يسعى:
في إحدى الروايات أن عبد الملك دخل مرة على أبيه عمر فقال: يا أمير المؤمنين ماذا تقول لربك إذا أتيته وقد تركت حقاً لم تحيه، وباطلاً لم تمته؟ قال عمر: اقعد يا بني، إن آباءك وأجدادك خدعوا الناس عن الحق، فانتهت الأمور إليَ، وقد أقبل شرها، وأدبر خيرها، ولكن أليس حسبي جميلاً أن لا تطلع الشمس على في يوم إلا أحييت فيه حقاً وأمت فيه باطلاً حتى يأتيني الموت وأنا على ذلك؟.
وفي رواية أخرى أن عبد الملك حين قدم على أبيه قال: يا أمير المؤمنين ألا تمضي كتاب الله وسنة نبيه، ثم والله ما أبالي أن تغلي بي وبك القدور؟ فقال له: يا بني إني أروض الناس رياضة الصعب أخرج الباب من السنة، فأضع الباب من الطمع، فإن نفروا للسنة سكنوا للطمع، ولو عمرت خمسين سنة لظننت أني لا أبلغ فيهم كل الذي أريد فإن أعش أبلغ حاجتي، وإن مت فالله أعلم بنيتي “.
إن العمل السياسي الاسلامي يهدف إلى سيادة القيم السياسية الإسلامية، ويتبنى المنهج الإصلاحي المتدرج الذي لا استقالة فيه ولا استعجال، يقرأ الواقع كما هو لا كما يرغب أن يكون، وتتحدد طرق عمله بناء على ذلك الأساس، يتشبث بالأصل والمنطلق، ويقبل تحقيق بعض الأهداف إن تعذر غيرها، يتطور ويتجدد حسب أحوال الناس ومستجدات زمانهم، يفضل الأيسر والأنجع والأنسب للظروف والأحوال.
مع أن سياقات معينة وظروفا مخصوصة، لشدة الظلم وشيوعه للشعب وعموم الناس، أو للدعوة وأهلها قد تدفع إلى خيارات ثورية أو انقلابية تقدر بقدرها، وليست حالات تصلح للتعميم في الزمان أو سائر الأماكن.
ثانيا : تأريخ وتقويم :
لقد نشأت الحركة الإسلامية المنظمة المعاصرة، دعوة شاملة تطرق كل الأبواب، ولكن تاريخ نشأتها 1927- 1928 مؤشر على أثر الشأن السياسي في تلك النشأة، قبل ثلاث سنوات أو أربع سقطت آخر المظاهر السياسية الموحدة للإمة ( الخلافة العثمانية ) وبدأت الدعوات العلمانية والقطرية في التوسع والانتشار، ومع أن هذه الحركة أبرزت طابعها الدعوي وسمتها التربوي وعملها الإداري والتنظيمي، فإنها لم تلبث كثيرا حتى عبرت عن اهتمامها السياسي في بلد الانطلاقة (مصر) وفي البلدان الأخرى.
كانت المقاربة السياسية للحركة الاسلامية في البداية واضحة وبسيطة، واضحة لأنها تطرق مجالا من المجالات التي يتوجه إليها الإصلاح الإسلامي والسعي للتمكين للإسلام، وإصلاح أحوال الناس وعودة الخلافة أو نحوها، وبسيطة لأن الحركة الاسلامية لم تعرف بعد صعوبات الميدان السياسي وإكراهات الدخول إليه.
مع تطور الممارسة السياسية للتيارات الاسلامية خصوصا في البلدان التي أتيح فيها المجال أكثر، وتمكن فيها الإسلاميون من الشرعية المؤسسية (أحزاب، عناوين سياسية) بدأ الخطاب والممارسة في التأثر بطبيعة الفضاء السياسي، وتبين أن الشعارات العامة والتعلق بالمثل لا يكفي ولا يغني في هذا المجال الصعب بطبيعته، وشرع كثير من سياسيي الحركات الاسلامية في مراجعات مهمة انتهى أغلبها إلى ظاهرتين دالتين في التاريخ السياسي الحديث للإسلاميين:
أما أولاهما فبروز الطابع الوطني في خطاب الإسلاميين واهتمام أهل كل بلد بمشاكله المخصوصة، وشيوع الانشغالات القطرية، وتراجع غلبة الاهتمامات الأممية (نسبة للأمة الاسلامية) وظهرت العناية بالأدبيات المحلية في كل بلد وبمنظومته القانونية وبإكراهاته الجيو- سياسية.
وأما الأخرى فتقدم خطاب التدبير والشأن العام على حساب خطاب الهوية والمرجعية، دون إهمال الأخير طبعا ولا التقليل من محوريته منطلقا وأساسا، وقد أخذ هذا التطور أهم تجلياته في مقاربة التمييز بين الدين والدولة أو الديني والسياسي وهي مقاربة مارسها العديدون عمليا وإن تميز أهل المغرب بالتنظير المبكر لها.
وفي الحقيقة قدم الإسلاميون تجارب سياسية ثرية، مشاركة ومعارضة وحكما وثورة وانقلابا، وإذا ما تجنبت الحديث عن التجربة الإيرانية وتجربة حزب الله في لبنان خوفا من أن يأخذ النقاش مسارات تصرفه عن هدفه ومبتغاه، فإن التجارب السياسية لأغلب الحركات الاسلامية واجهت صعوبات حدت من تطورها سواء بفعل ظلم السلط وتضييقها، أو بفعل إكراهات الموقع وحساسية اللحظة، أو بفعل أخطاء الخطاب والممارسة، وتبدو لي – على ما فيها من ملاحظات وعلى سلوكها من استدراكات – تجارب حزب العدالة والتنمية في المغرب ثم سميه في تركيا وحركة النهضة في تونس من أهم التجارب السياسية للتيارات الإسلامية الوسطية.
أعرف أن تجربة سياسية ثرية كانت في السودان، وأعرف أن د.حسن الترابي قاد تجديدا في الأداء السياسي للإسلاميين يصلح لاستخلاص العبر والدروس الكثيرة، ولكن مآل التجربة وحصاد دولتها طرحا من الأسئلة والإشكالات أكثر مما وفرا من الأجوبة والنماذج.
لقد استطاعت التجارب الثلاث المذكورة آنفا أن تترجم على نحو ناجح غالبا مظهري التطور المشار إليهما من قبل (غلبة المحلية والوطنية، غلبة الخطاب السياسي والتدبيري ) .
استطاع إسلاميو العدالة والتنمية في المغرب أن يختطوا لأنفسهم مسارا في واقع صعب وسقفه واطئ إلى حد كبير، وفي خط تصاعدي حجزوا لأنفسهم موقعا متقدما في مشهد سياسي أعان الربيع العربي والطريقة المغربية في التعاطي معه على فتحه وزيادة فرص الإصلاح والتغيير من خلاله، ورغم وصول حزب العدالة والتنمية إلى تشكيل الحكومة وقيادتها منذ ما بعد الربيع، ومع المكاسب المعتبرة التي تحققت في هذا الطريق، فإن حدود السقف التي تراجعت بعد نكبة الربيع العربي أضفت صعوبات وعقبات في طريق إخوة بن كيران والعثماني ترجمها خطأ تعزيز الفرنسة في نظام التعليم، وخطيئة التطبيع التي لن يكون أثرها السلبي هينا في مسار حزب العدالة والتنمية المغربي.
أما في تركيا ذات الخصوصية موقعا وترسخا للأطروحة العلمانية فقد اختار رجب طيب أردوغان وحزب العدالة والتنمية مظهر الحزب المحافظ الذي لا يحرص على إعلان هويته ومرجعيته، ويتخذ من مدخل خدمة الناس وتحسين الوضع الاقتصادي الطريق إلى القلوب، ومع الملاحظات التي قدمت على تجربة الرجل وحزبه، فقد نجحوا نجاحا معتبرا في أدائهم السياسي التحاما مع الجمهور، ونجاحا في الوصول إلى الحكم، ونجاحا في تدبيره، وفي تحويل تركيا إلى بلد قوي ناجح تعلو فيه القيم الإسلامية، ويزاحم الاقتصاديات الكبرى، وله حضور ونفوذ إقليميا وعالميا.
وتميزت حركة النهضة في تونس بأنها ذات تراث خاص في التنظير للعمل السياسي وقيم الانفتاح والواقعية والتجديد، ولذلك لم تجد صعوبات كبيرة بعد الثورة التونسية المجيدة في قيادة تجربة سياسية حية استطاع أصحابها أن يكونوا محورا رئيسيا في تقلبات السياسة التونسية، واستطاعوا في واقع ليس بالسهل وبعد نكسة الربيع العربي أن يحافظوا على موقع معتبر، وبمرونة كبيرة تمكنوا من الالتفاف على كل محاولات الكيد والتربص.
ليس غريبا أن يلاحظ الملاحظ على التجربة التونسبة نقصا في الصلابة الفكرية والمذهبية، ومن الوارد أن يلاحظ عليهم ضعف الإنجاز والإقلاع في الفترات التي قادوا فيها الحكومة، ولكن محصلة التجربة وإن شهدت تراجعات في بعض الأحيان، يغلب فيها التقدم، ويغلب فيها النجاح على الإخفاق.
هناك نجاحات أخرى ظرفية أو محدودة في تجارب أخرى، ولكنها لا ترقى لمستوى هذه التجارب الثلاث حجما وتواصلا.
لقد طرحت التجارب السياسية للإسلاميين أسئلة عديدة، تتعلق بالرؤى الحاكمة، والاستراتيجيات المعتمدة، والخطاب المختار، وفلسفة العلاقات وحدودها، وغير ذلك مما يتطلب من كل عازمين على العمل السياسي والمواصلة فيه أن يجيبوا عنها، وأن يتجاوزوا التعميم في شأنها، وأن يصارحوا أنصارهم وشعوبهم وشركاءهم بما اقتضته المراجعات والتقويمات.
ثالثا: تنزيل وتجسيد :
ليس من السهل – وقد وصفت ميدان العمل السياسي بالتعقيد والصعوبة وكثافة الإكراهات – أن أتصور تنزيل وتجسيد المعاني الواردة في محور التأسيس والتأصيل او الدروس المستخلصة من محور التأريخ والتقويم، ولكني سأحاول طرح أفكار وإثارة نقاط لعلها تستفز ذوي النظر والتفكير للإدلاء بما عندهم، وسيكون ذلك من خلال الخلاصات التالية:
1 – أن ميدان العمل السياسي ميدان اجتهادي في مساحته الأكبر، يتضح ذلك من خلال القواعد الشرعية الحاكمة، وتقرير اتساع دائرة العفو فيه، وأكثر من ذلك يسترشد بفعل السابقين فيه دون إلزام ولا إغفال، وحتى ما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم بصفة الإمامة (أي بالصفة السياسية) رأينا خصوصيته وارتباطه بالمصالح المترتبة عليه لأنه متوجه إلى تحقيقها، والقاعدة المعروفة المشهورة أن تصرفات الإمام منوطة بالمصلحة.
2 – أن التاريخ الإسلامي لا يسعفنا كثيرا بتجارب نموذجية ومتكاملة في العمل السياسي الناجح وإن وجدنا فيه على نحو متفرق عند علماء متميزين أو دعوات إصلاحية محدودة ما يمكن أن يساعد تأصيلا أو تفصيلا في بعض جوانب العمل السياسي، وهذا ما يقتضي عملا اجتهاديا وأداء فكريا يأخذ بالأصول الملزمة ويسترشد بتلك المتفرقات التاريخية، ويستفيد من إبداعات الحضارة الإنسانية في هذا المجال، ليخرج بأطروحات متكاملة في النظر السياسي وفي الأداء السياسي.
3 – أن الالتزام بالطابع الوطني في التجربة السياسية للإسلاميين أصبح أكثر إلحاحا، ويتطلب وضوحا لا لبس فيه، فمهما كانت أهمية قضايا الأمة وأهمية الإنشغال بها، فإن العمل السياسي الناجح عمل وطني بالأساس، والمصلحة الوطنية حاكمة عليه، والقوانين الوطنية ملزمة له، والموازنات والأولويات الوطنية لازمة الاعتبار والاستحضار فيه.
ولذلك فالأحزاب التي يبادر بها الإسلاميون، أو يسهم فيها الإسلاميون أحزاب تنتسب لأوطانها أولا، وما يناسب من صلات وعلاقات واهتمامات خارج الوطن لا ينبغي ولا يقبل أن يعود على الصفة الوطنية والقطرية بأي مظهر من مظاهر النقض.
4 – يغلب على الأحزاب السياسية التي شكلها الإسلاميون أن تكون منهم إما حصرا عليهم، أو هيمنة من طرفهم عليها، ولعل تجربتي حزب العدالة والتنمية التركي الذي يقوده أردوغان وحزب العدالة الماليزي الذي يتزعمه أنور ابراهيم استثناء في هذا الصدد، ولذلك غالبا لا يوصف هذان الحزبان بالوصف الدارج في الاعلام “حزب إسلامي” .
إن تقديم الإسلاميين – خصوصا في المحيط العربي – لتجارب حزبية مفتوحة، تتحول بهم من الحالة الحركية التقليدية أو غلبتها إلى الحالة الوطنية الجامعة أصبح أمرا مطلوبا وسيعبر في حالة النجاح فيه عن استحقاق في التطور السياسي للحركة الإسلامية وهي تقترب من مائة عام على انطلاقها.
إن ربط الأحزاب الديمقراطية بالمدارس الإيديولوجية في طبعاتها التقليدية، وجعل الحزب عنوانا لغيره فحسب، تجربة تستحق التقويم في اتجاه تجاوزها.
أدرك وأنا أقول هذا الكلام أن كثيرا من الأحزاب المحسوبة على التيارات الإسلامية الوسطية فتحت أبوابها واستقبلت بعض الوطنيين وأنزلت بعضهم منزلته، ولكن أغلب ذلك كان محدودا ومتحكما فيه، والذي أدعو إليه فلسفة وتوجه، ثم خطوات وإجراءات.
5 – أن الوعي بتفاصيل السياسة المحلية في كل بلد، والوعي بحقائق التطورات الإقليمية والدولية وتشابكاتها وتقاطعاتها وتناقضاتها أصبح ملحا بالنسبة للسياسيين الإسلاميين، وللأسف لا يلاحظ كبير معرفة بتلك التفاصيل ولا كبير وعي بهذه الحقائق عند كثير من ناشطي الأحزاب السياسية ذات المرجعية الإسلامية وحتى عند بعض قيادييها، وهذا خلل بين، ونقص شديد.
إن معالم التنزيل والتجسيد كثيرة، ولا يعدو ما ذكر أن يكون أساسيات فيها.
و السياسة على سبيل التلخيص :
رؤية وخطاب وعلاقات وسلوك، وشرط الرؤية الوضوح والانسجام، ولازم الخطاب الإقناع والأثر، وتتطلب العلاقات السعة والثقة والوفاء، ويلزم في السلوك الفعالية والمرونة والتجدد، فإذا أردت تقويم أداء سياسي فانظر حظه من هذا الرباعي وما يقتضيه كل عنصر فيه