ثقافة وفن

الدكتور ولد صهيب : يحاضر ببيت الشعر عن أدب الطفل (نص المداخلة)

 

 

 

             دور الشعر في ترسيخ المحبة والتسامح / أدب الطفل نموذجا

 

يعتبر الأدب عامة والشعر منه على وجه الخصوص، أهم وسيلة لإنتاج الأفكار وفضائل الأخلاق واحتضانها ونقلها واستدعائها عند الاقتضاء، وخاصة في الذاكرة الجمعية لمستهلكي الثقافة العربية عموما، وفي بلاد المليون شاعر خصوصا.

يقول الصاحب بهاء الدين، في مبتدإ كتابه “التذكرة الفخرية”  :

وبعد فإنَّ الأدب لم يزل على قديم الوقت محبوباً، وصاحبه على تباين الأحوال مقرَّباً مطلوباً، وكان من أعظم آداب العرب الشعرُ، الذي هو ديوان بيانهم، وجامع إحسانهم، ومقيِّد ذكر أيامهم وأنسابهم، وحافظ أُصولهم وأحسابهم، يعطرون بأَرَجه مجالس أُنْسهم ويعرفون به مزيّة يومهم على أمسهم، ولهذا قال الطائي في مدح الوزير أحمد بن أبي دُوَاد:

فما بالُ وجهِ الشعرِ أغبرَ قاتِــمًا   وأنفُ العلا من عُطلة الشعر راغم

تداركْه  إن  المكـرمات أصابــعٌ   وإن حُــلَى  الأشعــار فـيـها خواتم

ولولا خِلالٌ سنَّها الشعْرُ ما درى  بغاةُ  العلى مـن أين تُؤتى المكارمُ

                                                                   انتهى الاستشهاد

فالشعر إذن هو أرقى مظهر لمزايا اللسان العربي، ففيه تتجلى عبقريته وجلالته، ونفوذه وبلاغته، ومقدرته وإصابته، فلأجل ذلك كان سجل المفاخر والمآثر، بالنظر إلى جوانبه الإيجابية.

وبالعودة إلى مفردات عنوان هذه المداخلة نجدها تحيل إلى لون خاص من الأدب هو أدب الطفل، في علاقته بمنظومة من القيم النبيلة، يُتوخى منه ترسيخُها وتنميتُها، وهو موضوع مركب يستلزم بداءة توضيحَ جملة من الأمور الاصطلاحية والإجرائية، مرورا بالملمح التاريخي.

فمصطلح “أدب الأطفال” لم يتبلور بمدلوله الحالي إلا في القرن العشرين، وإن كان وجود نصوص نثرية وشعرية موجهة للأطفال يرجع إلى عصور غابرة وفي أمم وبلدان عديدة. وفي الوطن العربي ظهرت عدة محاولات بمصر عند رفاعة الطهطاوي، ثم عند أحمد شوقي الذي دعا في مقدمة ديوانه “الشوقيات” عام 1898م إلى قيام أدب للطفل مقترن بالحكايات والقصص الشعرية، وأخرج نماذج لهذا الأدب متأثرًا فيها بحكايات لافونتين، فكانت المراحل الأولى لهذا اللون الأدبي تعتمد ترجمة بعض النصوص الأجنبية ونظم بعض الأناشيد والقصص الحيوانية، لكنها كانت – غالبا – بهدف التسلية والترفيه وتتسم بالرمزية، ولم يُطلق عليها مصطلح نقدي قار، ولم تشكل جنسا أدبيا مستقلا واضح المعالم والخصائص المميزة.

ويعتبر كامل الكيلاني رائد الكتابة القصصية للأطفال ابتداءً من قصته الأولى (السندباد البحري) 1927م، مرورًا بقصصه التي استقاها من التراث العربي والعالمي. وتهدف كتابات الكيلاني إلى تغذية روح الطفل وتنمية خياله، وكان يحرص في كتاباته على أن يجنبهم الأخطاء اللفظية، فيشكِّل الكلمات بدقة وعناية.

وقد شكل إعلان حقوق الطفل الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة تكريسا وترسيما لهذا اللون الأدبي ؛ فأصبح منذ منتصف القرن العشرين جنسا أدبيا قائما بذاته، ينطبق عليه ما ينطبق على الفنون الأدبية من تعريفات وخصائص، إلا أنه موجه إلى فئة محددة من المجتمع، تمتد من الطفولة الصغرى وحتى مرحلة المراهقة، فأخذ المربون والكتاب والشعراء يولون هذه الفئة عناية خاصة في المناهج الدراسية والنصوص الإبداعية، آخذين بعين الاعتبار ما يناسب من الخصوصيات والمواصفات الضرورية كمراعاة أعمار الأطفال واحتياجاتهم وميولاتهم ومهاراتهم اللغوية؛ حتى يجدوا في هذا الأدب الفائدة والإمتاع العقلي والإنعاش الوجداني والعاطفي؛ فترتفعَ به أخلاقهم، وتزدادَ بفضله معارفُهم، ويجعلَهم يفكرون بالآخرين، فلا يقتصر  تفكيرهم على أنفسهم، ويشمل هذا الفن الأدبي الأشعار والقصص والمسرحيّات.

أما في موريتانيا – على وجه الخصوص – فقد واكب أدب الأطفال تطور التعليم النظامي وخاصة إصلاحات التعليم في عهد الدولة الوطنية، وما أفضت إليه تلك المشاريع الإصلاحية بترسيخ التعريب وتوسيع نطاقه، فتمت برمجة مادة “المحفوظات والأناشيد” بمعدل حصة أسبوعية في جميع أقسام المرحلة الابتدائية، وكان الاعتماد في البداية على نصوص من مناهج أقطار عربية، ثم أخذ بعض المعلمين الشعراء ينظم نصوصا شعرية على غرارها، وفي منتصف الثمانينيات ظهرت في الكتاب المدرسي نصوص شعرية ونثرية موريتانية كثيرة ذات مصداقية عالية.

ولعل أجود مدونة شعرية من الأناشيد والمحفوظات في المقررات المدرسية الكتاب الصادر عن المعهد التربوي الوطني سنة 2003 بنفس العنوان: ” الأناشيد والمحفوظات”، للمرحلة الابتدائية، وهو عمدتنا في هذا البحث.

 

 

المدونة الشعرية المدروسة

في تتبعنا لمنظومة القيم المدروسة من خلال المدونة الشعرية المحددة وجدنا أن الأساليب المتوخاة في تنمية تلك القيم وترسيخها يتم تقديمها للأطفال بواسطة إحدى الطرائق التربوية التوجيهية التالية:

أولا: الخطاب التوجيهي المباشر كالدعوة إلى التحلي بقيم التسامح والمحبة والإخاء والصدق مثلا، والنهي عن التخلق بما يناقضها من سيئ الأخلاق. (= افعل كذا..اترك كذا  ..)

ثانيا: الخطاب التوجيهي بأساليب غير مباشرة: ومن أفضل قنواتها استطراد القصص والحكايات، وخاصة ما كان منها متعلقا بحيوانات لما يضيف إلى اكتساب القيم المنشودة من طرافة ومتعة تجذب إليها الأطفال.

ثالثا: انتقاء النصوص الشعرية لتنمية الذوق السليم والإحساس بالجمال الفني كوصف الرياض والأزهار والتمتع بالمناظر الجميلة.

 وعلى الرغم من أن ربط الموضوع بتنمية القيم والأخلاق خاصة المحبة والتآخي والتسامح ضيق نطاق الاختيار، فقد وجدنا نصوصا شعرية تجسد هذه المطالب، انتقينا منها مقطوعات  لكل من محمد عبد الله عمرُ وأحمد شوقي ومعروف الرصافي.

المقطوعة الأولى 

لولد عمرُ  

 يقول في نشيد له بعنوان شعارنا

يا موطن الهداة   الأباة   يا مدفن الغزاة

              عش في ترفْ

علمك المشرفُ               يرفرفُ

بالنور بالخضرة       في كل الشُّرفْ

بُناتك الكرامْ  بالسلامْ    والحب والوئامْ

              تبني الشرفْ

وسوف نلقى اللهْ  مرابطينْ   متحدينْ

             شعارنا:

     أخوة    عدالة     شرفْ

في هذا النص يرسخ الشاعر في أذهان الأطفال ثلاثة مفاهيم أساسية هي الوئام  والسلام  والمحبة وكأن الأخوة المصونة بالعدل الدافعة إلى الشرف هي الأهداف المنشودة والحصيلة المأمولة.

وقد أضاف إلى القيم الآنفة الذكر مفهومي المرابطة والاتحاد، بحيث يتربى النشء وقد وقر في نفوسهم مفهوم المرابطة، بما تحيل إليه الكلمة عند الشناقطة من بُعد تاريخي وحمولة حضارية، واستقر في وعيهم ووجدانهم مفهوم الاتحاد بما يكسبهم مناعة راسخة ضد النزعات التفريقية الهدامة.

 وهكذا نجده في نهاية النص يوظف مفاهيم الشعار الوطني: شرف/ إخاء / عدالة/ توظيفا فنيا رائعا.

وفي النص التالي يشيد بالإسلام وبتشبث كافة الشعب به، وتخلقه بشيم نبيلة مثل العفة والكرم والتسامح والوحدة، محذرا من الحقد ومساوئه. ويخصص المقطع الأخير لحث الشباب على مكابدة التعلم مبينا لهم حاجة الوطن إلى تعلمهم، ليضيؤوا بأنوار علومهم ظلامَ الجهل الدامسَ، يقول:

أفلـح  شـعب  مسلـم        عــربه   والـعجـــم 

مـستمـسك  بوحــدة   في الدين لا تنفصم

شـيـمـتـه   تـسـامـح   وعــفـة    وكـــرم

لا يحمل الحقد فمن         يحمـل حقدا مجرم

وطـنـكـم  بحــاجـة       لعلـمكم،  تعـلـمـوا

فالعلم نــور ساطع       والجهل ليل مـظـلم 

وتتسم مقطوعات ولد عمرُ عموما بسهولة اللغة ووضوح المعاني وحضور البعد الديني، وبتقمص شخصية الطفل وحفزه على التأمُّل والتفكير، كما تتسم نصوصه في الغالب بلإيجاز والتكثيف، دفعا للملل وتسهيلا للحفظ والاسترجاع، وهو أغزر الشعراء الموريتانيين إنتاجا في مجال أدب الطفل إذ تعد نصوصه فيه بالعشرات.  

وللشاعر العراقي المعاصر معروف الرصافي نصوص مدرسية كثيرة، اتقينا منها مقطعا يتماشى ومشغلَنا في مجال ترسيخ القيم النبيلة، وقد  اعتبرها الشاعر حاضنة العلم وثمرته في ذات الوقت، فبعد أن حث النشءَ على تحصيل العلم وكيف أنه إذا ارتوت البلاد بفيوضاته استحال ضعيفها قويا، وفقيرها غنيا، شَرَطَ الانتفاع بثمرة العلم بتحلى أصحابه بمحاسن الأخلاق وفضائل القيم، ففي المزج بين العلم وبين حسن الخلق الخير العميم للأمة ولأجيالها المختلفة؛

يقول

أأبـنـاء المـدارس  إن  نفسـي  تؤمل  فيكم  الأمــل  الكبـيـرا

فسَقيًا  للمدارس مــن ريـاض  لنا قــد أنبـتت منكم  زهــورا

إذا ارتوت البلاد بفيض علـم  فـعاجز أهلها يمـسـي قــديـرا

ويقوى من يكون بها ضعيفا  ويَغــنى مـن  يكون بها فقيرا

ولـكـن ليـس  منتفعا  بعــلـم  فتى لم يحرز الخلق النضيرا

إذا ما العلم لابس حسن خلق  فــرجِّ  لأهله  خـيرا  كـثيـرا

وما إن فاز أغزرنا  عـلـوما  ولـكـن فـاز أسلمنا  ضمــيرا

وإذا كانت تنمية الأخلاق الحميدة لدى الأطفال وترسيخُها في فكرهم وتجسيدها في سلوكهم تتم غالبا بأساليب مباشرة كما في النصوص السابقة، فإن كثيرا من التربويين القدماء والمعاصرين يحبذون تحقيق الأهداف الآنفة الذكر بطرق غير مباشرة، لتنمية مهارات المقارنة والاستنباط والاستنتاج بتوجيه من المدرسين، ومن أكثر تلك الأساليب شيوعا واستحبابا القِصص الخيالية وخاصة منها ما أسندت البطولة فيه إلى أحد الحيوانات.

وسنكتفي بنموذجين لشاعرين تناولا في تجربتهما الإبداعية موضوعين متقاربين على نحو شبيه بالمعارضة أو المجاراة، لكن المتأخر كان أتم نظرا فأضاف إضافات قيمة سننبه إليها لاحقا.

النص الأول لأحمد شوقي بعنوان “الثعلب والديك”، وتُستنبط منه فوائد جمة وحِكم عديدة، منها التحذير من الانخداع بالكلام المعسول، حتى ولو ألبس لبوس الدين، ومنها الاستفادة من حكم السلف الصالح من العارفين، ومن تجاربهم النافعة فهي مظنة النجاة، النص:

 برز  الثــعـلـب  يـومــا   في شعار الواعظينا

فمشى في الأرض يهدي  ويــسـب  الماكرينـا

ويـقــول  الحــمـد للــــ           ـــــه إلــه  العلمـينا

يــا عــباد  الله  توبــوا  فهــو كهف التائبيـنا

وازهُدوا في الطير إن ال       ـعيش عيش الزاهدينا

واطلـبوا  الديك  يؤذن  لصلاة الصـبـح فيـنا

فــأتى الديكَ   رسول  من إمــام الناسـكـيـنا

عرض الأمــر عليــه  وهو  يرجو أن  يلينا

فأجاب  الديك عــذرا   يا أضــل المرسلينا

بــلّـغ  الثعــلب  عني      عن جدودي الصالحينا

أنهم قالوا وخير الــ        ـقول قــول العارفـــينا

مخطئ من ظن يوما   أن للــثعـلب  ديــنـا

 ونجد في النص كذالك أساليبَ من شأنها تنمية لغة الحوار والتواصل، وفنيات الخطاب الدعوي كالتذكير بالعبودية لله تبارك وتعالى (ياعباد الله) ومن ثم الدعوة إلى الزهد والمتاب.  

أما النص الثاني فهو أيضا لمحمد عبد الله عمرُ بعنوان ” الإمام تحت الشجرة”، وقد تساوق مع ما في سابقه مما يستنبط منه من فوائد، إلا أنه أضاف إليها من عدة وجوه كما سنرى بعد استعراض النص يقول

صعِد  ديــك مــرة       شـجــيـرة   مــنــورهْ

لعـلها تحمــيه مـن      كلب أحـس  خــطــرهْ

فالتصق الكلب بجِذ      عـها يعَـض خنصره

ويضمر الشر ويلـ       ـقي للغصون نـظـره

فرجّع الـديك الأذا        ن راجيا أن ينصره

فـطرب الذئب لـه       لحاج نفس مضمـره

       وسار يعدوا نحوه      بـخــطـة  مـــدبــره

وقال وهو يــرتــدي     شــخـصـيـة مـوقـره

ما أحسن الأذان فالـ     ـأذان فيك مــفــخره

غدًا به تحــشر في   جمع الكرام الــبـرره

وجوهكم مســفرة   ضاحــكـة مستبـشـره

فانزل نصل فرضنا جماعة   مـنضـفــره

إن الصلاة في الجما عــة طريق المغـفره

 قال له الديك نعــم   نبــهتني فالمــعـذره

أقم لنا الصلاة فالــ  ـإمام تحـت الشجـره

فالتفت الذئب إلى   كلب كريه المنـظـره

فاشتد يجري هاربا  والكلب يعــدو أثــره

فنزل الديك يغنـ      ـي في الرياض المثمره

ويزدهي بريشه  مـيــمـنة   ومـيسـره

إن القصة في هذا النص أقوى بناء وأكثرُ درامية لتعدد أعداء البطل الذي استطاع بذكائه زرع الفتنة بين عدويه ليتحول حاله من الخطر الداهم، إلى حالة من النشوة والازدهاء، بعد انفراج الموقف، ثم إن الشاعر لم يجعل البطل يؤذن اعتباطا وإنما أذن طلبا للنصرة فبلجوء الخائف إلى الله يجد الأمن والأمان، كما تستنتج منه فوائد أخرى كالتنبيه على مزايا الأذان والمؤذنين، وفضل الصلاة في الجماعة.

وفي النص حقول لغوية وصور فنية من شأنها تنمية الذائقة الجمالية عند الأطفال، كمعجم الغناء الذي واكب القصة في مختلف مراحلها حيث بدأ البطل بترجيع الأذان والترجيع تزين الصوت، فأطرب ذلك الترجيع الذئب فانجذب إليه، وبعد انتهاء الأزمة نزل البطل يتبختر ويتغنى زهوا  وسرورا. ومنها كذلك الحقل الطبيعي وما يحيل إليه من مناظر تبعث النشء على الإحساس بالجمال وتمليه، فبذلك تزداد نفوسهم صفاء وتشبثا بمسرات الحياة وتمتعا بمباهجها، وقد واكب المعجم الطبيعي القصة بدءا وختاما فالشجرة المرتقاة لها نوار وأغصان ومهبط البطل رياض مثمرة؛ ومما زاد من محاسن النص الشعري وانسجام صوره اقتباس الشاعر من القرءان الكريم وما تضمنته تلك الآية من منظر بهيج.   

وأخيرا فإن أدب الطفل أصبح في العصر الحديث أداة تعليميّة وتربويّه هامة، تواكب المناهج الدراسيّة، وبها يرتقي الطفل إلى أفضل المستويات، لأنّها تخاطب وجدانه وتحاور عقله وتنمي مداركه وتنطلق بخياله إلى آفاق أرحب، وتزوده بمعلومات ومهارات كثيرة ومتنوعة توسع من مداركه وتجاربه.

  ويساهم أدب الطفل كثيرا في بناء شخصيّته وإكسابه خلفيّة معرفيّة مبنية على أسس صلبة الأركان، كما أن له دورا أساسيا في غرس منظومة القيم النبيلة في ثقافته وسلوكه كالتسامح ومحبة الآخرين والتفكير بهم والتودد إليهم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى