أقلام

بين طموح داكار وتواضع نواكشوط ../ عالي محمد ولد أبنو

 

حين يكون الحلم السنغالي أوسع من الحاجة والموريتاني أضيق من الإمكان ..

 

في خطابه اليوم، أعلن رئيس الوزراء السنغالي عثمان سونكو عن نية بلاده وقف استيراد الغاز ابتداء من عام 2026، والاعتماد كليا على الإنتاج المحلي، وهو قرار يحمل دلالات سياسية واقتصادية عميقة، إذ يعني وفرا سنويا يقارب 140 مليار فرنك إفريقي، مع وعود بخفض تكلفة الكهرباء على المستهلك. غير أن ما يلفت الانتباه أكثر ليس القرار في ذاته، وإنما السياق الذي جاء فيه، حيث ربطه سونكو بخطة إنعاش اقتصادي واجتماعي تتجاوز قيمتها خمسة آلاف مليار فرنك إفريقي، صممت لتمول بنسبة تسعين في المئة من الموارد الداخلية، وتستند إلى انخراط واسع من القطاع الخاص المحلي والأجنبي في مشاريع استراتيجية كبرى تشمل خطوط أنابيب الغاز، والبنى التحتية اللوجستية، والصناعة العسكرية.

بهذا الطرح، يضع سونكو بلاده أمام أفق يتجاوز حدود الحاجات الآنية لثمانية عشر مليون سنغالي، ويدفعها نحو موقع قيادي في غرب إفريقيا.

 

لكن المفارقة التي تستحق التأمل هي أن السنغال، على الرغم من كثافة سكانها وضخامة حاجاتها، تمتلك الطموح والرؤية التي تجعلها تطرح مثل هذه البرامج الطموحة، بينما موريتانيا، الأقل سكانا بكثير والتي لا يتجاوز عدد سكانها ربع سكان السنغال، والأقل مديونية مقارنة بجارتها، تبدو في وضعية تواضع استراتيجي لا يتناسب مع إمكاناتها. فموريتانيا تتقاسم مع السنغال تقريبا النسبة ذاتها من عائدات حقل الغاز المشترك، ومع ذلك فإن خطابها السياسي والاقتصادي لا يكشف عن رؤية تضاهي ما يطرحه السنغاليون، بل يظل أسيرا لمنطق التوازنات وانتظار الشركاء أكثر من كونه بيانا لإرادة جريئة في تحويل هذه الثروة إلى رافعة تنموية شاملة.

 

الأرقام تضاعف حدة هذا التناقض؛ فالناتج المحلي السنغالي يقارب 30 مليار دولار مقابل 11 مليار لموريتانيا، لكن نصيب الفرد الموريتاني من الدخل القومي يبلغ نحو 2200 دولار في مقابل 1700 دولار للفرد السنغالي، ما يعني أن القدرة النظرية للموريتاني على الاستفادة من عائدات بلاده أكبر من نظيره السنغالي. وعلى مستوى الدين الخارجي، فإن السنغال مثقلة بمديونية تفوق 27 مليار دولار، أي ما يعادل 90% من ناتجها المحلي، بينما لا تتجاوز ديون موريتانيا 6 مليارات دولار، أي نحو 55% من ناتجها. ومع ذلك، فإن البلد الأكثر مديونية والأشد ضغطا سكانيا يجرؤ على إعلان خطط عملاقة تتجاوز خمسة آلاف مليار فرنك إفريقي، بينما البلد الأخف عبئا والأقل عددا يكتفي بإدارة الهشاشة وتدوير الخطاب التقليدي حول الشراكات.

 

هذه المفارقة لا تعكس فقط تباينا في الإمكانات، بل تكشف بالأساس اختلافا في منطق القيادة السياسية. السنغاليون، بفضل خطاب سونكو، يسعون إلى جعل موارد الغاز منصة لبناء موقع استراتيجي جديد للبلاد، حيث يتحول الغاز من مجرد مورد للطاقة إلى أداة سيادة واستقلال اقتصادي وسياسي. أما في الحالة الموريتانية، فإن غياب خطاب مماثل يشي بأن المورد الغازي سيوضع في خانة الإيرادات التي تسهم في سد العجز أو تمويل النفقات الجارية، دون أن يتحول إلى عنصر مفصلي في إعادة صياغة الاقتصاد الوطني.

 

إن السؤال الذي يفرض نفسه هنا ليس اقتصاديا محضا، بل هو في جوهره سياسي وحضاري؛ فلماذا يملك بلد يفوق سكانه أربعة أضعاف سكان موريتانيا، ولا تبلغ مساحته خمس مساحة موريتانيا، ويعيش ضغطا ديموغرافيا وماليا أكبر بكثير، شجاعةَ رفعِ سقف الطموح إلى عنان السماء، بينما بلد قليل السكان، وأقل مديونية، وأوفر قدرة على الاستفادة من حصته الغازية، يظل مترددا أمام إعلان مشروع وطني جامع؟ أليس من المنطقي أن تكون طموحات موريتانيا، بالنظر إلى حجم حاجاتها المحدود نسبيا، أعلى من طموحات السنغال؟ ولماذا يظهر المشهد معكوسا إلى هذا الحد بحيث يصبح الأكثر حاجة هو الأكثر جرأة، والأقل حاجة هو الأكثر حذرا؟

 

إنها معادلة تحتاج إلى تأمل ومراجعة عميقين داخل التفكير السياسي الموريتاني، لأن مستقبل الدول لا يتحدد فقط بحجم الموارد، بل بجرأة الرؤية وقدرة القيادة على تحويل الإمكانات إلى مشروع وطني جامع. والدرس الذي يقدمه خطاب سونكو هو أن الطموح، حين يُصاغ في صورة خطة قابلة للتنفيذ، قد يكون أعظم من الواقع نفسه، بينما غياب الطموح، حتى مع وفرة الإمكانات، قد يكرّس الهشاشة والركود لعقود طويلة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى