الحالمون بانقلاب عسكري، في بلادنا، هم الساكنون، أبدا، على هوامش الفكر وفي مزابل التاريخ. لقد قطعنا أكثر من نصف الطريق المؤدي إلى “الواد السياسي المقدس” حيث لم يعد الدستور مجرد وريقات منتفخة نكتبها ونمحوها ونغيرها ونعدلها ونشرحها ونؤولها حسب أمزجة الطغاة وباعة الضمير، بل أضحى عقدا اجتماعيا ومنجى نلجأ إليه ونحتمي به ونحميه. لم يعد الرجوع إلى الوراء ممكنا، فالعهود الاستثنائية، بما تحمل من ويلات وأغلال وظلمات وعصي وترميل وتيتيم، ولت لغير رجعة، ومستوى الوعي السياسي أصبح متراسا أيديولوجيا يحول دون السقوط في بئر “البيان رقم 1” وأكاذيب المناكب المزخرفة بالنياشين والأنجم.
مَن منا لا يتذكر انقلاب عزيز: مظاهرات يومية، واحتجاجات داخلية وخارجية، وجرحى، وموقوفون، وأزمات تفتأ تتعقد، واحتقانات لا تتوقف.. حين كادت الحياة الاقتصادية تتوقف في العاصمة، وحين فر المستثمرون، وارتبك المشهد. في تلك الفترة الفاحمة الدامسة اقتربت البلاد من الهاوية، وكادت تسقط في جحيم البلبلة والفوضى، وكاد الانقلابي الآثم يرفع الراية البيضاء لولا مراوغة ذكية (من اللاعبيْن المحترفيْن نيكولا ساركوزي وعبد الله واد) أفضت إلى قبول الجبهة الوطنية للدفاع عن الديمقراطية بمفاوضات دكار التي مثلت أكبر خدعة راحت ضحيتها المعارضة ومن ثم المسلسل الديمقراطي الموريتاني برمته.
اليوم، وفي جو يطبعه الإجماع، وفي ظروف تتسم بالتهدئة الشاملة، وفي مشهد قائم على التشاور والإشراك، نسمع للساكنين على هوامش الفكر حشرجة، خفية وعلنية، تدعو، باستحياء، إلى الانقلاب على الدستور، وتقارن اليوم، وما فيه من تلاحم وانسجام، بالأمس وما فيه من الاحتقانات والتشظي!.. إنهم زبانية العذاب السياسي، الواقفون سرمدا أمام خيارات السلم، الرافضون أبدا لنِعَم الاستقرار، المتلاعبون يوميا بجو السكينة.
إن أي كاتب، فاعل أو “مفعول به”، وأي سياسي، فاعل أو “مفعول معه”، يدعو، صراحة أو ضمنا، إلى انقلاب عسكري، يتوجب على القضاء أن يسائله ويحاكمه ويدينه لأنه يعرّض الوضع الراهن، الهش أصلا لأسباب بنيوية، للتأزيم، ويعيد الساحة إلى النقطة صفر، ويعرّض البلاد لمرحلة من التفكك لا يمكن أن نتنبأ بمآلاتها. إن على صناع الرأي أن يصطفوا في وجه مثل هذه الدعايات الهدامة، إذ ليس من المقبول أن نجعل من خطأ شرطي أو شطط دركي مطية يركبها الساكنون في مزابل التاريخ ليصلوا بالبلاد إلى قاع بحر متلاطم من الحسرة والتعاسة والندم.