…وانحسر بحرٌ/ محمد الأمجد بن
تتلاطم أمواج البحر الهائج أبديًا من جماله شكلا ومن نفاسة ما يُكِنّه مضمونًا لكنّ شواطئه كانت متنَفَّسًا لاضطرابه وثورته.
البحر يُعطي بكل سخاءٍ وسماحة وطيب نفس وإيثار وتَفَضُّل، لكنه قد يأخذ؛
البحر دائما يعطي كل مكنوناته فإن غضب أخذ بكل جبروته، يمتلك القدرة على الضربة القاضية وقد لا يستخدمها كلّيًا. من خلاله تعبر الجواري المنشآت في البحر كالاعلام فتصل إلى أهدافها ومقاصدها..
البحر يحبه الانسان؛ مفكرًا كان أو أديبا أو مُنَظرًا أو حاملَ همٍّ أو صاحبَ قضيةٍ أو نافعًا للناسِ أو عاشقًا، ولا يكون الانسانُ إنسانًا إلا بإحدى هذه.
البحر دائم الفيضة، دائم الغَلَيان وله مدٌّ وجَزْرٌ سَيِّدُهُ فيهما القمرُ الذي اصطفاه الخالق لينشقّ معجزةً لأفضل خلق الله سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم؛ القمرُ الذي جعله المُدَبِّرُ (نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالحِسَابَ، ما خَلَقَ ذَلِكَ إلَّا بِالحَقِّ نُفَصِّلُ الَايَاتِ لِقَوْمٍ يَعلَمُونَ).
للبحر أمواج تتجدد في ديمومة ثورته الابدية، ولكنْ له شواطئ يبث عبرها أحزانه وهمومه.
ما أشبه البحر بالبحر
إلا أنّ البحرَ المائيَ محصورُ الحركة بين شواطئَ وبرازخَ، أمّا البحرُ الأمجدُ فإنَّ له سَبْحًا طويلا في النهار، تماما كما نتخيّل روحَه الآن في برزخه سابحة في الأفُقِ المبين بعد فراقها لجسده؛ ونعلم أنّ الحتفَ قد يَغْفُـلُ وقد يُهَادِنُ لكنه أبدًا لا يغيب ولا يهاجر ولا يهجر ولا يتلاشى ولا يتعب ولا يموت.
كان الأمجد حليما منصفا لكنه إن اسْتُغْضِبَ ربما غضب؛ يقضي على المتطاول على حريمه ووطنه بضربة قاضية، فقد كان الوطنُ بجميع معانيه ينبض في عروقه ودمه وتتأسس رؤيته الفكرية على حبه والبذل له والتضحية من أجله.
كان صلبا عصيا على من يراه قادرا على منفعة الناس ولم ينفعهم، لكنه كان حليما شفيقا بطبيعته، وكان رافعا من شأن وذِكْرِ مَنْ يراه نافعا للناس، يريد ما يمكث في الارض أن يمكث في أرضه ووطنه، يقدّر الشخصَ أيَّ شخصٍ على أساس منفعته للناس أيِّ ناسٍ، وعلى مدى عصاميته وقد يتواضع له حَدَّ الانحناء، فقلب الأمجد سليم أبيض ناصع وإنْ كانت تنزل الهموم لَيْلا على شُغُفِه فتصبح مخضرّةً إنّ الله لطيف خبير.
يَبُثُّ الأمجدُ كل ما في مكنونه من نفائسَ نصائحًا وشحذًا للهِمَمِ من محاريبَ وتماثيلَ وجفانٍ كالجوابِي وقدور راسياتٍ، ومن ثمراتٍ مختلفٍ ألوانها، ويبثّها جُدُدًا بِيضًا وحُمْرًا مختلفًا ألوانُها، أمّا الغرابيبُ السُّودُ فلا سبيل لها إلى قلب الأمجد أصلا فهي تتراكم في مكبّ نفاياتٍ حوله لا عليه، لينشد لسانُ حاله:
أَيا جَبَلَــــيْ نُعمــــــانَ بِاللَهِ خَلّيا سَبيلَ الصَبا يَخلـُــص إِلَيَّ نَسيمُها
أَجِد بَردَها أَو تَشْفِ مِنّي حَرارَةً علـــــــى كَـبِـدٍ لَم يَبقَ إِلّا صَميمُها
فَإِنَّ الصَّبا رِيــــحٌ إِذا ما تَنَسَّمَت عَلى نَفسِ مَحزونٍ تَجَلت هُمـومُها
لَيالِــــيَ أَهلـُــــونا بِنُعمانَ جيرَةٌ وإِذ نَحــــــنُ نرضاها بِدارٍ نُقيمُها
تَذَكَّرتُ وَصلَ الناعِجيّاتِ بِالضُحَى وَلَذةَ عَيْـــــش قَد تَوَلـَّـــــى نَعيمُها
عُرف الأمجد بنضاله عن الحق والصبرِ فيه بسكينة وبكل احترام للقانون وللاعراف.
كان الأمجد بَرًّا بوالديْه، يخفض لهما جناح الذلّ من الرحمة، وكان بَرّا بوالدته فطمة منت عبد الوهاب ولد حمّاهْ وقد أشهَدت على ذلك أشخاصا في نواكشوط وأثناء حجتها رحمها الله تعالى.
الأمجد موسوعة علمية وثقافية وفكرية متنقلة؛ كاد أن يُحيط بكثير من معارف والده العلامة محمد الامين السالم رحمه الله وهو في نهاية سن المراهقة قبل أن يلتحق بالتعليم النظامي.
الأمجد شاعر مفلق لم يجمع أشعاره ربما لأن جمع الاشياء ليس من طبيعته التي جُبِل عليها فلا يُلفَى الأمجدُ إلا باثًّا ومفرقًا لجميع أرصدته الراسخة والمتجددة.
الأمجد أديب محيط، سريع البديهة، ذكيٌّ، قد تحبسه إبداعاتُه لياليَ وأيّامًا في وادي عبقر؛ ذلك الوادي المهيب العجيب الغريب، وكثيرا ما حَدّثَ بعضُ مرتادي ذلك الوادي عن آثارٍ للأمجد، والآثارُ هناك لا تنمحي..
الأمجد كاتب عظيم؛ نهل من معينه كثير من قراء الجرائد والمجلات الصادرة بالعربية في مطلع التسعينات وكان من أكبر المشاركين والمغذين لها.
كان للأمجد دور في نشر الثقافة العربية، والعربيةَ كأجمل لسانٍ وأعظمه.
علوُّ همة الأمجد بحر زاخر دائم الهيجان، شواطئُه التي يتنفس من خلالها شَحذ هِمَمِ كلِّ مَنْ يلقاه؛ مَن يعرف ومن لا يعرف، يحب الخير لجميع الناس ويسعى لهم في كل خير، فمن النادر أن دخل في المشهد الثقافي بكل تنوعه أو الاعلامي منذ بداية الثمانينات شَخصٌ أو برز فيه إلا وكان للأمجد حضور معه بتوجيهٍ أو نصحٍ أو اعلام أو إدماج أو دعم أو تعليم أو تنبيهٍ على الأقل خاصة في مجال الصحافة والاعلام، فقد كان الأمجد جسرا عبر عليه الكثير من زملائه وأصدقائه ومعارفه وحتى مُجالسِيه في سمر أو في لقاء عابر، وكان يريد للجميع التألق والنجاح، كان في هذه النقطة بالذات متأثرا بالمناضل سميدع الذي ضحى بالغالي والنفيس وبحياته ووقته ـ رغم حداثة سنه ـ من أجل تثقيف وتعليم جميع الشباب الموريتانيين في كل نقطة من أرض الوطن وتوعيتهم؛ صحيح أن أسلوبهما مختلف تماما، والظروف الزمانية والمكانية مختلفة تماما لكن التأثر موجود. لم ينافس الأمجدُ زملاءَه على المراتب العليا الوطنية والدولية في الصحافة والاعلام لا احتقارا لها ولكنْ إيثارًا ولأنّ هِمَّتَه قد تصل به في أوْجِ غَلَيانها أنْ لا يرى مَحَلّا يرتقيه ففي تلك اللحظة تصبح جميع المخلوقات عنده كشيبةٍ في مفرقه ـ والسلام على روح الإمام الأعظم سيّدي أحمد أبي الطيب المتنبي ـ وأيضا لأنّ كل شيئٍ له أمواجٌ يكون دائمَ جَزْرٍ ومَدٍّ، والأمجدُ فاضت ذبذباتُه عبر موجات الأثير، وعبر موجات الايثار وعبر موجات الاثارة، وفي جميع الحالات ألقى الله عليه محبة وظلت موجاتُ القبول تدثّره وتستره.
الأمجدُ صاحِبُ العلماءِ والفقهاءِ ومُحاوِرُهُمْ، وصديقُ الفنانين وكلِّ نخبة البلد، يحبه الناسُ ويسعى إلى مجالسته كلُّ مَنْ عرفه.
فتبارك الله أحسن الخالقين، ما شاء الله لا قوة إلا بالله.
بارك الله في ذريته وأهله وذويه من بعده.
أسأل الله الغفور الرحيم الحنان المنان الحليم المنعم المتفضل أن يرحم عبده محمد الامجد ولد محمد الامين السالم ولد حمّاه وأن يجنّبه كل عذاب في القبر وكل مكروه وأن يتلطف به في سائر أحواله وأن يسكنه الدرجات العُلا من الجنة وأن يجعل قبره روضة من رياض الجنة وصلى الله وسلم على الحبيب المحبوب الشافع المشفع الرحمة المهداة سيّدنا محمد و على آله وأصحابه أجمعين.