جائحة كورونا : نازلة خاصة تتطلب فتوى خاصة/ماء العينين دحمود
جائحة كورونا : نازلة خاصة تتطلب فتوى خاصة
(أ) خصوصية الجائحة
فيروس كورونا (كوفيد 19) : شديد الانتشار، وينتشر وفق متتالية هندسية، ويصيب الأعضاء النبيلة (الرئة ثم الكلى)، وطويل الحضانة نسبيا(14 يوما). فيمكن لحامل الفيروس أن يعدي الناس، وهو صحيح ظاهريا.
والفيروس قابل للتطور والطفرة الجينية، فيمكن أن يصير خطره أشد في أي وقت.
وينتقلالفيروس بالمساكنة والزمالة ومجرد المصادفة، فضلا عن المصافحة، ولمس أي شيء ملوث كمقابض الأبواب والسيارات، والنقود، والأغذية، وغيرها.
فخطورة التجمعات في كونها لا تخلو عادة من شخص حاملا للفيروس على نحو ما (في عطاسه أو سعاله أو على يده أو رجله أو لباسه). ولا ينحصر خطر الفيروس،كما يشاع، في ضعاف المناعة من مُسنَين وأصحاب الأمراض المزمنة، بل يشمل خطره حالات الضعف الظرفي، من إعياء وجوع ووعكة عابرة (وهي حالات لا يسلم منها أحد).
وفداحة الجائحة لا تقبل أنصاف الحلول، بل تتطلب عملا استباقيا وإجراءات قاسية، كحظر التجول والحجر المنزلي.
وما يقترحه بعضهم من تشديد الإجراءات الوقائية في المساجد لا يفي بالمطلوب.
فكيف نضمن التعقيم والكمامات والسجادات والتباعد بين المصلين عند كل صلاة، وفي كل مسجد؟ وكيف نحدّ من عدد المصلين؟ والحال أن المساجد يرتادها كل من هب ودب (مجانين، معاتيه، أطفال..)،ويسود فيها عدم الانضباط.
فخصوصية النازلة: تتمثل في فداحة الجائحة العالمية، وقول أهل الاختصاص بضرورة حظر التجمعات.
(ب)أدلة التخلف عن المساجد وإغلاقهافي ظل الجائحة
تأسست فتاوى التخلف عن الشعائر الجماعية، وفتاوى إغلاق المساجد على مجموعة من الأدلة المتداخلة، يمكن تلخيصها في “ترجيح المحافظة على النفوس على المحافظة على الشعائر الجماعية، عند التعارض، نظرا إلى أن المحافظة على النفوس شرط في بقاء المحافظة على الشعائر”، مع خصوية الجائحة الحالية.
ويمكن تفصيل تلك الأدلة فيما يلي :
1. الخوف من المرض والهلاك بالجائحة، وتصنيف ذلك الخوف موجبا للتخلف عن المساجد وإغلاقها ؛
2. وجوب حفظ النفس (الذي هو من الضرورات والمقاصد الشرعية) ؛
3. النهي عن المجازفة بالأنفس (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة)؛
4.حرمة إضرار الغير(لا ضرر ولا ضرار ؛ منع رائحة كريهة في المسجد، ومن باب أحرى ما هو أشد وأعمّ) ؛
5. أحاديث الأمر بالحيطة من العدوى (“فرّ من المجذوم فرارك من الأسد” ؛”قد بايعناك فارجع” ؛ “لا يورد ممرض على مُصحّ”، وحديث عبد الرحمن بن عوف في التعامل مع الطاعون بالحجر بين بلدة موبوءة وأخرى سليمة)، ولجوء عمرو بن العاص بالناس إلى التفرق في الجبال، بوصفها أماكن نقية الهواء وغير مأهولة؛
6. أمره صلى الله عليه وسلم المصلين بالصلاة في البيوت أوالرحال، خشية ضرر المطر والبرد والوحل.
وفي هذا الأمر دليل خاص على مشروعية تعليق الصلاة الجامعة في المسجد أو المصلى، لعذر.
ولا شك أنّ ضرر انتشار الوباء أشد وأعم.
7. الاستئناس بحالات الترخص الواجب، كخمر لغصة وميتة لمضطرّ (الضرورات تبيح المحظورات)، ووجوب الفطر على مسافر لقي أذى شديدا (أولئك العصاة.. أولئك العصاة !)، وهي حالات تجعل العزيمة الأصلية حراما؛
8. فقه المآلات وسد الذرائع؛
9. أدلة التيسير ونفي الحرج (الأمر إذا ضاق اتسع ؛ آيات “يريد الله بكم اليسر”، ….).
10. اعتبار الشرع لقول أهل الاختصاص (القائلين في الجائحة الحالية بمنع أي تجمّع) ؛
11. هذا مع أنّ إغلاق الدولة للمساجد بسبب الجائحة يدخل في دائرة تصرفات السياسة الشرعية والمصلحة العامة.
ولقد صدرت تلك الفتاوى عن الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، وهيئة الإفتاء الإماراتية (برئاسة عبد الله بن بيه)، ودار الإفتاء المصرية، وهيئة كبار العلماء في السعودية، وغيرها من هيئات الإفتاء في دول العالم، بالإضافة إلى كثير من الفقهاء. وعارضتها مجموعة قليلةلم تستوعب فداحة الجائحة، فتمسكت بأحكام الظروف الاعتيادية.
(ج) الرد على الشبه والدعاوى
12. لهذه النازلة ملابساتها الخاصة غير المسبوقة (من فداحة الوباء، والعولمة التي جعلت العالم مترابطا، وقول أهل الاختصاص بمنع التجمعات). فلم يتقدم فيها قول مماثل. فلا غرو أن تكون الفتوى فيها غير مسبوقة، نظرا لخصوصيتها. فمنقولات المذاهب الفقهيةفي هذا الشأن كانت في حال مغايرة لخطورة الجائحة التي تتطلب تفادي أي تجمهر،وبالتالي تفادي المساجد. وكل نازلة جديدة لا تصح فيها دعوى “خرق الإجماع”.
13.إغلاق المساجد أثناء الجائحة، مع قيام موجب التخلف (الخوف من العدوى والمرض والهلاك) لا يأخذ حكم تعطيل الشعائر الجماعية (الجماعة الخمسية والجمعة)، في الظروف الاعتيادية.
14. إغلاق المساجد في الجائحة حمايةللأرواح.فلا يصح إدخاله في “المنع الظالم” الوارد في آية “ومن أظلم ممّن منع مساجد الله”. وعمارة المساجد تتطلب حماية عُمّارها من الجوائح. والقاعدة أن ما لا يتم الواجب إلا به واجب.
ووجوب التقيد بنصائح أهل الاختصاص صارف عن عمارة المسجد. ولا يصح التمسك بأصل مع وجود الصارف.
15. إذا قام العذر عن التخلف عن الجماعة والجمعة في حقجميع المخاطبين بهما، لم يرتفع بسبب عمومه.
16.إغلاق المساجد أمام المرتادين لم يأت منفردا في أي بلد من بلدان العالم. بلجاء ضمن حظر جميع التجمعات.
فهو وسيلة مشروعة يقصد منها منع العدوى في خصوص المساجد.ولا يتصور أن تسلم المساجد المفتوحة من دخول الفيروس إليها، على نحو ما. ولا يمكن التمييز ضمن المرتادين بين مريض وسليم ومشتبه فيه وحاضن يعدي وهو صحيح ظاهريا. فكيفنستطيع أن نخص بعض المرتادين دون بعض بإجراء وقائي أو بحكم شرعي ؟.
فالاحتياط المأمور به شرعا متعين هنا في حق جميع المرتادين. والمفسدة المعتبرة هنا هي “انتقال الفيروس من شخص لآخر على نحو مظنون أو متوقع”. ولا يليق أن ننتظر حتى يعم الوباء لكي نغلق المساجد. فنندم، ولات ساعة مندم!
17.ليس للمساجد حصانة خاصة ضد العدوى.فالأوبئة لا تميز بين المساجد والحانات. وقد تفشى وباء كورونا الحالي في ماليزيا عبر مسجد كان يرتاده شخص مصاب. وعدوى النزلات الفيروسية في الحج والعمرة مشهودة.
وقد نقلت المصادر أن الناس(في أحد الطواعين)لما هرعوا إلى المساجد للتضرع، وتجمعوا فيها،اشتد فيهم الهلاك.
والأوبئة لا تميز بين البر والفاجر. فقد قتل طاعون “عمواس” عشرات الآلاف من الصحابة رضي الله عنهم.
18. حديث عبد الرحمن بن عوف : أخبر فيه جيش الصحابة عما أشكل عليهم من إقدام أو إحجام على الوباء.
فجاء الحديث دليلا على الحجر الصحي بين بلدة سليمة وأخرى موبوءة.ولا عبرة بكون الحديث لم يشمل تعطيل المساجد،فأدلة النوازل متعددة، وقلما يستوعبها حديث واحد.ولكل نازلة لبوسها الخاصة بها.
ثم إنّ الأصل في المسائل الطبية أنها من أمور الدنيا التي تخضع لتجارب البشرية التي تتطور عبر الزمن.
19. “دخول المصلي الصبح جماعة ً في ذمة الله سائر يومه”:ليس مسوِّغا للتعرّض أو التعريض لخطر الجائحة (أي مع سبق إصرار). كما لا يجوز لمصلي الصبح في جماعة أن يعمد إلى جوب الشوارع بسيارة مفرطة السرعة، بحجة أنه محفوظ. هذا مع أنه لا ضمان لتأدية جميع المصلين لصلاة الصبح في جماعة في جميع الأيام، وفي جميع البلدان.
20. “الاستعانة بالصبر والصلاة” و”الفرار إلى الله” لا يرتبطان ببيوت الله، ولا سيما إن كان في دخولها خطر.
21. صلاة الخوف في الحرب على شكل مجموعات تناوب بين الصلاة الجماعية وبين تأمين الحراسة : يؤخذ منه الجمع بين الاحتراس من العدو وفضيلة الجماعة، لا غير.والصلاة (الفردية) أثناء المسايفة (في العركة)، كيفما اتفقت الوجهة :دليل على ضرورة تأدية الصلاة في الوقت، وسقوط شرط الاستقبال عند التعذر، لا غير.
22. عدم ترخيصه صلى الله عليه وسلم للأعمى في التخلف عن الجماعة، في المدينة:حادثةأعيان لها ملابساتها.
والظاهر أنّ ما قد يصادف من هوامّ ووحوش في وسط حضري (من دون أن يمنع الناس من مزاولة شؤونهم وأعمالهم):
لا يقاس عليه خطر جائحة عالمية. هذا مع أن الجماعة تصح في البيوت، والجمعة تنوب عنها الظهر.
23. الأخذ بالأسباب مأمور به شرعا، ولا ينافي التوكل والإيمان بالقضاء والقدر (اعقلها وتوكل)، ولا ينافي الشجاعة.
وقد قيل :”إنّ الله إذا أراد شيئا قدّر أسبابه”، و”النار محفوفة بالنيات الحسنة”.
(د).مجمل القول في رفض إغلاق المساجد أوالتخلف عنها
24. رفض التخلف عن المساجد وإغلاقها : لا يخلو من سوء تقدير لخطر الجائحة، أو تصور فاسد، أو تنطع، وعاطفة عمياء، وورع من غير فقه. فينبغي ألا يحملنا التوكل الأخرق والتعلق بالمساجد على المجازفة بأرواحنا وأرواح أهلينا ومخالطينا.
25.التهوين من شأن الوباء، كقول بعضهمبـ”محدودية خطورته على الناس عموما”، جهل بالواقع الصحي، وما يتطلبه من إجراءات استباقية.
وليت شعري ما سيكون قولهم، لا قدّر الله، لو استفحلت الكارثة وأصبحت البلادكلهابؤرة، فانهار النظام الصحي والاقتصادي والأمني، فهلك خلق كثير بالجائحة، وكثرت السرقة والحرابة، والنزاعات والقتل، وانحلتالأخلاق.
26. “من يفتون الناس ببقاء عزيمة الجماعة والجمعة في المسجد إبان الجائحة الحالية” لا يختلفونكثيرا عن “الذين أفتوا الجريح الجنب بوجوب الاغتسال في ليلة باردة، فقتلوه بفتواهم”، وذلك بجامع أنّ كلا الفريقين أفتى بما يسبب الهلاك.
فهلا استشعروا ضمان الأرواح البشرية التي قد تهلك بسبب فتاواهم؟ اهـ
(ماء العينين دحمود، في 28-03-2020).