أقلام

بيه .. وتجديد الرؤية للموروث.. واستنطاقه للحاضر / د. أسامة أحمد المصطفى

بيه .. وتجديد الرؤية للموروث.. واستنطاقه للحاضر

د. أسامة أحمد المصطفى

يمثل الفهم السلبي للتراث الديني أحد أبرز مناحي سوء فهم الأدبيات والمنطلقات الفكرية التي ينطلق منها فكر العنف ولعل أبرز هذه الملامح التناقض الصارخ إلى حد التلازم بين مفهومي الجهاد والعنف أو بين الانتحار والاستشهاد أو الانفتاح على الحضارات الأخرى، مما يتسبب في خلق أزمة ثقافية عميقة تتطلب إعادة قراءة التاريخ بمنظور مختلف وروح ناقدة ومراجعة مستحدثة.

في هذا الإطار لقد اتتني الفرصة في ان اتعمق كثيرا في الآونة الاخيرة في قراءة كتابات فضيلة الشيخ عبد الله بن بيه، فيما يتعلق باستراتيجيات الرؤى المفهومية التي تضع خارطة طريق نحو الخروج من مقاومة الحضارات الانسانية بفكر منكفئ.. وذلك بالحوار مع تلك الحضارات بما نمتلك من حضارات قديمة متجددة او جديدة متأصلة مؤسسة في عمق مطلق يفتح كل الآفاق للتواصل الانساني.

مما لا شك فيه أن معضلة التراث التاريخي هي معضلة السلطة نفسها، حيث كان المؤرخ مصنفا راوي يقترب في وظيفته من دور الشاعر، مما يحيله إلى مجرد قطعة أثاث في بلاط الحاكم يتفاداه لا يقدم الافكار النيرة الدولة، حتى ظهر في التاريخ نمط من الروايات لم تكن سوى مجرد تصفيق لسياسات وتماهي وتواطؤ وتأييد لمنهجيات بدون تقديم المشورة العلمية الناطقة بالفكر الاصلاحي، ومن غير المعقول في ظل هذه الضبابية أن نستغفل التلفيق والدس والتدليس في صفحات التاريخ.

في الوقت ذاته كان التاريخ دائرة مستهدفة يسعى لها الكثيرون من أجل توظيفها لصالح أيديولوجية معينة، ،ثم أن الأزمة أحياناً لم تكن في التاريخ ذاته، ولكن في طبيعة الكتابة التاريخية الناظرة للحقل التاريخي وأنه مرتع للأهواء والرغبات والطموحات الجانبية والمسلكيات العنصرية الإقليمية المنحرفة، فانصبت عليه كل سيئات الماضي وصراعاته وسلبياته ومشاكله المستعصية ،مما أفقد التاريخ نكهة منهجية وموضوعية المؤرخ في أن يمدنا قدراً من المعرفة.

في حين كانت عقدة (التاريخ للبطل) واحدة من أبرز أزمات التاريخ المتأثرة بالعقلية الشرقية التي تعشق تجسيد البطل وأوصافه ونعوته وخلق هالة مقدسة حوله، باعتباره (سوبرمان) يحول اللا شيء إلى شيء. هذه الرؤية كانت كفيلة في الوقت ذاته أن تُقصي الفئات التي وقفت في وجه البطل من جبين التاريخ مما شوه كل معاني الموضوعية والعلمية والصدقية في الكتابة التاريخية.

ناهيك عن معضلة اختفاء الوثيقة واندثار الخبر فيظل هيمنة أيديولوجية تحجب كل مضاد لفكرها، وبالتالي فإنه يصبح من المستحيل استعادة المادة التاريخية بعد هذه المدة الطويلة التي تفصلنا عن التاريخ.

ولكن من خلال قراءة دقيقة لكتابات فضيلة الشيخ العلامة عبد الله بن بيه و مع فهنا بأن المستحيل عملة غير متداولة في مجال البحث، ادركت أن بالتدقيق يمكن الوصول إلى الحقيقة في التاريخ، ذلك لأن ليس كل التاريخ ، مزور وليس كل التاريخ كتب في البلاط ، وليس كل التاريخ كتبه المنتصرون .

لمست بوضوح عبر هذه القراءة هذه الافكار الناطقة خارج الصندوق القديم ، إن عملية تحرير التاريخ من تبعات التزوير والمفارقات يعتبر هدفاً جوهرياً لمعالجة أزمات سوء فهم التاريخ من أجل مزيد من الوضوح في المادة العملية والعقلانية في الفكر السياسي النير في كل جملة مررت عليها في كتابات فضيلته، فهو يوضح بإن علاقتنا الحميمة بالتراث والتصاق الناس بقدسيته هو أنموذج مشرف لديننا وقيمنا، ومن غير المعقول أن نبرأ منه أو نلفظه لمجرد رغبتنا في اللحاق بالحضارات الإنسانية الأخرى ونهضة التكنولوجيا، ولكن في الوقت ذاته لابد أن يكون التاريخ جسراً للحاضر يلهمنا بناء المستقبل من خلال الارتقاء بالناس إلى مصاف الوعي والتجلي العقلي.

فوجدته يقول ان لئن كان كذلك فلابد من العمل على قراءة التراث من جديد من أجل تأسيس العوامل النفسية والاجتماعية والثقافية الكامنة وراء تجديد رؤيتنا إلى موروثنا الثقافي واستنطاقه لحاضرنا وتحديث واقعنا المعاش وفق منظومات وقيم جديدة في ظل التحديات الراهنة التي تشكل تهديداً لوجود الضعفاء على ساحة المستقبل، مع ادراك ان حوار الحضارات والتكيف معها ابلغ من مقاومتها ورفضها بل علينا تقديم حضارتنا للآخرين بكل ثقة.

تؤكد تلك الرؤى ان الحوار الحقيقي يتطلب مجموعة من العناصر اهمها قبول اطراف الحوار بالاختلاف وادراكهم ان للحوار مستويين الاول داخلي ضمن الحضارة الواحدة للوصول الى معالم الخطاب المعتمد والثاني خارجي موجه الى الاطراف الاخرى وكلاهما متعدد الابعاد، فالغرب ليس كتلة واحدة وكذلك الشرق وهذا يتطلب الاقتناع بضرورة سعي كل طرف لرصد وفهم خطاب الطرف الاخر مؤكدا ان الحضارات تقوم على الابداع وتختلف مساراتها باختلاف الشعوب التي انتجتها. وهذه رؤية واضحة فيما قرأت في اعماق كتابات فضيلة الشيخ العلامة عبد الله بن بيه.

عليه فان ضرورة تسليم بأسس تنطلق من احترام حق الشعوب في الاختلاف وضرورة حماية التنوع الثقافي بالعالم بوصفه تراثا انسانيا يحقق للحضارات المتزامنة امكانية التبادل والتواصل وتخفيف الفجوة الاقتصادية في العالم واعادة الحقوق للشعوب واحساس الجميع بالأمن والاستقرار، لان فكرة صراع الحضارات عنصرية وانها خطرة لان الحضارات تتأسس على ما سبقها وتتواصل وتتفاعل فيما بينها مما يثبت ان الامم مشتركة كلها في بناء الحضارة الحالية رافضا القبول بصراع الحضارات.

كما يجب أن نلاحظ ثمة أمرا مفصليا لتحركنا الحضاري المتمثل في مباركة الجهود الإنسانية في مختلف الحقول والجوانب لاستمرار حركة الإبداع وإن لم تكن جزءاً من تأصيلنا التراثي، وليس عيباً أن نجد ثمة إبداعاً فكرياً وثقافياً وإنسانياً مستحدثاً في واقعنا ونقوم بربطه بتراثنا في عملية إضافة مستحدثة، فإن كان التسامح فكراً إنسانياً رائداً يمكننا تكريسه في مبضع واقعنا المعاش فما المانع لو قمنا بتبنيه دون الحاجة إلى عملية عجن فكري وعصر مستميت للبحث في أفران التراث، إن لم تكن لنا حصيلة تراثية قيمية.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى