الأخبار

بيرام الداه اعبيد: رسالة من السجن، الفصل 2018  

 

 

 

 

 

 

الفعل السادس:
في يوم 31 مايو، في أعقاب مفاوضات قيم بها دون ضجيج، صادق حزب الصواب على مشروعي المتعلق بقابلية ترشحي للرئاسيات ومنحنا، أنا ورفاقي، غطاءه الشرعي. النظام، الذي ترتعد فرائصه من الخوف، فرض على التحالف الوليد حظرا لمدة 24 ساعة، لكنه راجع نفسه أمام خطيئته الفظيعة بانتهاكه لقوانينه. بعد مسار من التعاقب والتردد والإصرار، لجأ إلى أفعال مافيوية مألوفة. وهكذا آذن بإجراء الحفل المكرس لتحالف الرك-الصواب، لكنه، في نفس الوقت، اشترى ذمة معد أخبار متفرقة، خامل الذكر، وكلفه بمهمة التشويش على هذا التقارب.
ينعزل ليكمم
المخربش، المهموم على مدى 10 سنوات بكفاحنا، يجسد تنفيذ المخطط س. فبموجب المخطط أ يحاول وزير الداخلية الحيلولة دون إقامة الحفل، لكن دون جدوى. بينما يتعلق المخطط ب بتعقيد حصولي على شهادة التبريز الضرورية لترشحي لدى اللجنة الوطنية المستقلة للانتخابات. مهمة الشكوى المتضمنة تهمة القذف، التي قدمها الصويحفي، تكمن في محاولة تدارك وإنقاذ الذرائع السابقة. بيد أنهم لم يحسبوا حسابا للمخيال السامِّ للمتعصبين من الثلة البائسة الخاملة المتلكئة التي يشكل قطاع “العدالة” وعاءها الوراثي. وانطلاقا من احتكاكي به عن قرب، فإنني لا أتخيل، ضمن ما يسيره البشر، ما هو أكثر تحيزا للبغي من قصر العدالة. سأعرض الحجج الدامغة.
بالنجاعة المعروفة لدى ممتهني أقصى الاحتيال، تكفلت الشرطة القضائية، التي كانت تنتظر العمل الجبار المتوخى، بالقيام بالمهمة متدافعة، كالنحل في خلية العسل، لتزيّن بألف مصيبة فرضية حرماني من حقوقي. هكذا فكروا في أن ينسبوا إلي، إضافة إلى افتراءات الشاكي، أرطالا من تهم التحريض على العنف مع سبحة من الكياسات المشابهة في التصميم.
كان يتوجب منعي من دخول قبة البرلمان، وأكثر من ذلك إبطال نيتي في الوصول إلى القصر الرئاسي سنة 2019. لماذا كل هذه المثابرة منذ عشرية من السنين؟. نظام الهيمنة القبلية يسعى إلى تكميمنا مبتغيا –دون جدوى- تأخير تحرر المواطنين المنحدرين من جنوب الصحراء، متشبثا بممارسة السلطة كلازمة فضلى، لكن هؤلاء ليسوا لوحدهم، فكثيرا ما ننسى أنه تحت جبة العبْء العاصف للحراطين ولكور (الأعراق السوداء في موريتانيا) تتراءى موجة ثالثة يُخشى من أن تـُصَفي الهيمنة في صميمها: أتحدث هنا عن مطالب المساواة والتقاسم المادي والاعتبار التي تحملها الفئات المطحونة من كل الأعراق. وإذا تمكنت المجموعات الأصلية المنحدرة من الجنوب من استيعاب وإيواء نهضة بقية الفئات ذات المطالب المشابهة، فإن مجموعة البيظان، للأسف، لن تتخيل مستقبلا ولا شرعية لها خارج التراتبية الهرمية والأنساب والتفاضل العرقي. إن إفراطه تجاهنا ناتج عن الوعي الباصر الذي نستخدمه لفِطامه عن مادته المغذية المتمثلة في إنتاج واستهلاك التفاضل غير المستحق والغش والغلو المشيّد كقوقعة تحمي من كل ضيق. النظام يشن ضدنا حربا تبتغي نجاته لأن صمود منظومة إعادة إنتاجه لا تقبل التأقلم مع وسط من التشاور والإصغاء والاحترام المتبادل. والحقيقة أن الفخ الحقيقي في الحياة يتمثل في تصور البقاء الدائم في القمة.
منتخب في زانزانة
في يوم 13 أغشت تمت إحالتي كمتهم، بمعية عبد الله الحسين مسعود. كان ذلك قبل أربعة أيام من بدء حملة الانتخابات البرلمانية والبلدية والجهوية. وبحكم الواقع، لم يعد يُسمع لصوتي حسيس ضمن فعاليات التناقض الديمقراطي. وبالتالي لم أعد مسموعا البتة.
بالرغم من الدستور، كان رئيس الدولة يقود عملية الترويج لحزبه مجهدا نفسه بالتعهدات والتهويلات والإيماءات، محتكرا استخدام رموز ووسائل السلطة العمومية. ولبلوغ غايته كان يشير إليّ باسمي، ويصفني، تعييرا، بالمجرم وعدو الأمة والإسلام، وبالغوغائي، المحتال، الأفاك، المتعطش للثراء والأوقاف التي يمنحها الغرب. فبالنسبة لمحمد ولد عبد العزيز، الذي تكشف فكاهته عن تهريج مضحك حدّ القهقهة، فقد اختلقت مشكل العبودية الزائف وأنشأت منظمة (إيرا) لأحصد ثمر تجارة المشاعر، وبالنسبة له فإن الغرب-الأسطوري الوهمي طبعا- يعوض بسخاء كل مارق قادر على زعزعة الوحدة الوطنية والسلم المدني وفوقية الإسلام في موريتانيا. وبهذه الدواعي الثلاث ينحو إلى الحفاظ على الوضع الراهن. إن مواطني البيظان يتوارثون فكرة المؤامرة هذه بكل عصبية منذ نهاية القرن المنقضي، وهكذا أصبحوا ينظرون إليها على أنها علم رفيع وأمارة ذكاء.
خلال مهرجانات حملته، يدعو محمد ولد عبد العزيز الناخبين الموريتانيين إلى التصويت للوائح حزب الدولة بغية سد الطريق أمام التحالف الخطير بين الجناح السياسي لمنظمة إيرا وحزب الصواب. وقد كرر، مرات عديدة خلال مداخلاته، أنه لن يترك “المتطرفين” يدخلون البرلمان. بعض الأوساط أرادت تفسير ذلك على أنه يعني إسلاميي حزب تواصل، وهو التأويل المفتقر إلى الدقة لأن هؤلاء كانوا دائما ضمن التشكيلات البرلمانية على مستوى الغرفتين تارة عبر التحالف مع حزب الاتحاد من أجل الجمهورية: القطيع الانتخابي لرئيس الدولة.
لا يهم، فقد انتخبتُ رفقة بعض الرفاق. وإننا، هنا، من الآن فصاعدا، داخل العرين، لكنني على دراية تامة بما يحيط بي ومن ثم مسلح بما يكفي.

الإهمال في المحكمة
موظفون كاسدون
في يوم 13 أغشت، قبل أن يستجوبني قاضي التحقيق، محمد فاضل الإمام، أتحفني بحصة حول الديمقراطية والعدالة وفصل السلطات المعمول به على تراب الجمهورية الإسلامية الموريتانية. كان يلوك العنوان ببهجة مضحكة. أجبته أن القضاء، كما هو شأن القرارات القضائية منذ 2010، اختلق لي تهم “التهديد بالقتل” و”العنف”. رد القاضي راسما لوحة مثالية للنظام وخاصة السلوك القيم لوكيل الجمهورية والمحكمة والشرطة. لقد قدّم في وصفه هيئات فوق كل الشبهات، ما هي بالتي نعاني منها. فحسب تنويراته (وكم هي ثمينة!) فإن الحبس التحفظي الممدد لأسبوع، والمنع من النوم والزيارات والاستشارات الطبية والمحامين، تدخل ضمن الإجراءات العادية. وبفعل إلحاحي، أخبرني، بشيء من الحنق، أن منعي من القراءة خلال الأسبوع الطويل والمرهق داخل زنزانة الشرطة، ومنعي من الاستحمام والحصول على حصير ودثار وناموسية لا يستحق الذكر أمام رجل قانون. بالنسبة لمحمد فاضل الإمام يتعلق الأمر بسخافة وتفاهة لا يصر عليهما غير المتسيسين الحريصين باستمرار على تحويل وجهة الإجراءات. القاضي المقدام أوعز إلي بأن المناورة لن تنجح معه. وهكذا أصر، برأفة ووساوس العصاميين، على إهدائي مثقال ذرة من رأيه: لقد قام وكيل الجمهورية والشرطة بعملهما على أحسن وجه، وإن السلطات العليا في موريتانيا لجد حيادية بشأن النزاعات أمام المحاكم. وكم سنحت الفرصة لأن أضحك لولا أن تداركتُ لأكتشف أنني إنما كنت أمام محضنة كتاكيت، بيد أن ريش هذا الطير الزاهي بالألوان يدفع إلى الدهشة حقا.
وعلى مستوى مضمون الملف، طرح علي فضيلة محمد فاضل الإمام سؤالين وقدم ادعاء:
-هل تعترف بالتهم الموجهة إليك من قبل المحكمة؟.. أجبت: لا.
-هل أنت مستعد لطلب الصفح من لدن الصحفي دداه عبد الل بعد أن وصفته بالعميل للشرطة السياسية؟.. أجبت: لا، إني لأؤكد أن دداه عبد الل زنبور من خلية الشرطة السياسية مكلف بالمنظمات التي ننتمي إليها (أنا ورفاقي). نعم، مهمته تكمن في استغلال ثقتي وإثارة الخلاف والقيام بشهادة زور وتقديم تصريحات غير لائقة من أجل فبركة ذريعة إقصائي من حقل حقوق الانسان ومن استحقاقات 2018 و2019. هذه الأجندة تنفذ، سيدي القاضي، أمام ناظريك.
-حتى لو طلبت من الشاكي الصفح، وحتى لو سحب شكواه، فإنني لا محالة مُرسلك إلى السجن. أقول لك، من الآن، إنك ستقبع هناك وعلى الفور، لكنني أنصحك بترك السياسة وخاصة التخلي عن هذا النشاط الحقير المدعو الانتخابات.. إن عليك أن تنسى الانتخابات.. استرح.. وإذا قدر الله لك أن تخرج السجن، بعد طلب الصفح من الصحافي، فإن عليك أن تهتم بصحتك وأن تترك حبل السياسة على الغارب.
السيد القاضي، غير المكترث بالتعبير الهادئ للاقتراعات، لم يُخـْــفِ مقته للديمقراطية. وعلى الفور وقـّـع الأمر بإيداعي ورفيقي عبد الله الحسين مسعود. لقد أودعنا القاضي دهاليز السجن وكأن شيئا لم يكن.
وما كان لنا أن نتأخر عن لقياه مرة أخرى، فبعد ثلاثة أيام من السجن السريع، أمر قاضي التحقيق في محكمة نواكشوط الجنوبية بسحبنا، أنا ورفيقي، بغية الاستماع إلينا لختم مرحلة التحقيق. غير أن وزارة العدل عارضت المثول الجديد وسدت الطريق أمامه مستهزئة باستقلالية القاضي.

الإجراء المتسارع
في يوم 29 أغشت، فجأة وصل الشخص، المستحق التقدير، إلى السجن وأراد أن يقوم باستجوابنا. رفضنا الرضوخ للعبة سؤال-جواب لأنها تثير فينا المخاوف بشأن البصيرة الشخصية للقاضي. لجأنا إلى حقنا في الذود بالصمت بسبب غياب محامينا الذين لم يخبر أي منهم. ومنذ أسبوعين يتم رمينا في أروقة ساحة ضيقة من السجن تفتقر إلى سقف يحمي من الأمطار، عندما كانت تتهاطل على نواكشوط، مرغمين على الأرق والقلق دون أن نحصل على سكن شخصي مثل عموم المتهمين والمدانين. إن السجن المدني بانواكشوط، المكتظ جدا، يمثل خطرا على سجين الرأي من أن يتعرض لسوء المعاملة حيث تتنازعه قساوة الحق العام وجشع الحراس. ومن جديد هددنا القاضي وأعلمنا أن القانون سيطبق لتأخذ العدالة مجراها بشأن مواطن متضرر: الصحفي المزعوم. فبدأ يحكي لنا، بمنعطفات من البلاغة العشوائية وشذرات من الحكمة الناقصة، أن النظام محايد والقضاة مستقلين. أخذت الكلام لأهدم، نقطة بعد نقطة، وعظه التواق رغم أنني مقسم بين الحيرة والتسلية!.. في تعاليم العدالة –التي تعتبر وظيفة نبيلة وكيسة واقعة تحت آفاق من الإكراهات والصرامة-  فإن بعض “قضاتنا” يبدون فارين إلى القرن الـ 19 ببداوة مجلجلة. كل شيء فيهم ينشر رائحة الزمن المظلم الآفل… هؤلاء أبناء الفيئة المتغلبة، ذوو التكاليف الباهظة، الذين تعج بهم الوزارة الوصية وتعوض لهم بالمئات، باتوا مبعثرين في زوايا البلد الأربع. إنهم قابلون للتبادل وقابلون للطي وقابلون للنسخ إلى ما لا نهاية. ولقياس جرجة تماهيهم مع نصوص علمهم المضلل فقه النخاسة و التمييز الموريتاني، يكفيكم أن تستشيروهم حول العبودية في “الفقه” الإسلامي، عندها سترون أنهم يتقنون فصولها ويبرعون في اجترارها.
في مواجهة رفضنا للرد عليه، رد القاضي النبيل بما مفاده أنه غير معني بالطريقة التي نعامل بها في السجن. إنه “غير مكترث” بهذه الوضعية. وأخيرا أنذرنا بأن نقبل الاستجواب على الفور، وإلا فإنه سيذهب في عطلته السنوية وسيبقينا وراء القضبان إلى حين عودته نهاية أكتوبر 2018. فأجبناها بانسجام: أيها القاضي، أنطقْ بالظلم كما يحلو لك، فنحن لن نتكلم قبل حضور محامينا.
وهكذا ختم بالقول: إذن إبقـَـيَا هنا في السجن ريثما أعود من عطلتي نهاية شهر أكتوبر!.

في انتظار الخاتمة
سيتم استدعاء اللائحة الرسمية لنواب الجمهورية، التي تضم شخصي، لتجتمع كما ينص عليه الدستور خلال أول أيام العمل من شهر أكتوبر، بيد أن القاعدة انتــُـهكت للمرة الأولى في موريتانيا. ينضاف إلى ذلك إبقائي في السجن رغم صفتي كبرلماني.
إن الحكومة تكافح من أجل كشف النقاب عن خدعة قانونية ستكون بمثابة شعوذة قوارب بهلوانية في مياه مضطربة، هدفها منعي من مقعدي في البرلمان. لكني أبشر جميع العدول ان النصر قادم و وشيك.
يسقط حكم.العسكر
يسقط حكم.الدكتاتور
فظيمه فاحباسهم.
بيرام الداه اعبيد، السجن المدني
نواكشوط بتاريخ 31 اكتوبر 2018.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى