أقلام

تونس و موريتانيا..جُسور التاريخ نحو المستقبل المشترَك/ المختار داهي

 

كان لي أمس الخميس 11 نوفمبر 2021 صحبة فريق كبير ضم سفير موريتانيا بتونس وبعض أعلام أطر القطاع ذوى الصفة و الصلة و رئيس اتحاد الكتاب و الأدباء الموريتانيين و ممثلين من اتحاد الناشرين و الفنانين شرف المشاركة بفعاليات افتتاح معرض تونس الدولي للكتاب تلبية لمبادرة كريمة من وزارة الثقافة التونسية باستضافة موريتانيا كضيف شرف.

و مثَّل افتتاح المعرض برئاسة رئيس الجمهورية التونسية قيس سعيد حدثا ثقافياجامعا كما ينبئ البرنامج الحافل لأيام المعرض بتحقيق الأهداف المرجوة من إحياء ثقافة المطالعة و تحريض الإنتاج الفكري و تثمينه و إنزال المفكرين و الكتاب و المبدعين منزلة تكريم و تبجيل و غرس ثقافة صحبة خير الجلساء لدى الأجيال الصاعدة،..

و قد تشرف الجناح الموريتاني بالمعرض بزيارة رئيس الجمهورية التونسية و قد كان لكلماته المقدرة لموريتانيا و عطائها العلمي و إعجابه خصوصا بموروث المخطوطات العلمية و اعتزازه بصداقات شخصية مع موريتانيين اشترك معهم سنوات التحصيل الجامعي طيب الأثر فى وجدان كل الموريتانيينن.

و لعلها سانحة كي أستذكر بعض محطات جسور العلاقة الثقافية الطويلة بين موريتانيا و تونس تسخينا للذاكرة و حثا على برور التاريخ بما يخدم المستقبل؛ إنه تاريخ يقارب الألف سنة من المشترك الثقافي، شمل الوفير من المجالات؛ لعله من أبرز عناوينها اللغة والفقه والتصوف.

ففي بداية الثلث الأول من القرن الميلادي الحادي عشر، وتحديدا سنة 1035، غادر الأب الروحي لدولة المرابطين (يحيى بن إبراهيم الكدالي) مرابع بلاد الملثمين في رحلة حج عادية؛ لكنه أثناء العودة حط رحاله بحاضرة الثقافة –يومها- بالمغرب الأقصى والأندلس (القيروان) لينسج علاقة مميزة مع فقيه القيروان وعالمها (أبو عمران الفاسي) علاقة لا نبالغ حين نقول إنها أثمرت دولة المرابطين؛ تلك الدولة التي ستملأ الدنيا، بعد ذلك بفترة وجيزة، وستشغل الناس!.

عاد الأمير يحيى بن إبراهيم من القيروان حاملا كنزا نفيسا؛ مثّل أول اتصال ثقافي مباشر بين تونس وموريتانيا، عاد منها حاملا رسالة ابن أبي زيد القيرواني (أو رسالة مالك الصغير) التي ستشكل الهوية الفقهية -لاحقا- لموريتانيا؛ فتغدو –كما هو حال تونس- مالكية؛ إن ضل ضلت، وإن اهتدى اهتدت، على حد قول الناصر اللقاني بشأن مختصر خليل المدبج في مقدمته بأسماء بعض علماء تونس وفي ثناياه ببعض اختياراتهم وأقوالهم.

كان ذلك باكورة التواصل الثقافي بين بلدينا؛ ذلك التواصل الذي عُمّر بعد ذلك -أخذا وعطاء- ردحا من الزمن؛ فهذه عديد المصادر التاريخية تؤكد أن نظم “بُوطْلَيْحِيَّه”” للفقيه الشنقيطي محمد النابغة بن عمر الغلاوي؛ المتعلق بالمعتمَد من الكتب والفتوى في المذهب المالكي؛ ظل يدرّس في جامع الزيتونة حتى النصف الأول من القرن العشرين.

وهذا الفقيه محمد يحيى بن المختار الولاتي يذكر في كتابه “رحلة الحجاز” أنه التقى قرابة الثلاثين من علماء وقضاة تونس، وأنهم أتحفوه بنفائس الكتب، وأمدوه بوافر المال، وقد ناقش معهم نازلة إثبات رؤية الهلال بالتيلغراف؛ بل إنه أفتاهم ببطلانها.

وذات الأمر تنبئ عنه ملاحظات الفقيه الواداني الطالب أحمد ولد أطوير الجنّة في أواخر الثلث الأول من القرن التاسع عشر، وبالتحديد سنة 1831، وما دوّنه عن تونس وعلمائها وأعلامها ومعالمها في كتابه الذائع “رحلة المنى والمنّة”.

إذا كان الفقه المالكي مثّل معلما من التواصل الثقافي البارز بين تونس وموريتانيا، فإن طريقة العارف بالله أبي الحسن الشاذلي (الشاذلية) كانت أداة تواصل روحي بارز -هو الآخر- بين موريتانيا وتونس؛ فالطريقة الشاذلية -المنوطة عليها تمائمها بتونس- تغلغلت في جل أرجاء موريتانيا.

لم يكن هذا الملمح المختصر متعلقا بغير التواصل الثقافي.. أما التواصل التاريخي فيعود إلى ما قبل الميلاد، إلى أيام إمبراطورية قرطاج؛ حيث تتواتر الروايات التاريخية على أن الملاح والرحالة القرطاجي “هانون” أو “حنون” قام برحلة استكشافية لشواطئ موريتانيا منذ القرن الخامس قبل الميلاد، أي قبل الرحالة الأوروبيين بألفي سنة تقريبا.

وتتعزز هذه الرواية من خلال العثور -في منطقة “حوض آَرْغينْ “موريتانيا- على قطعة نقدية من العملة القديمة، يرجح أنها عملة قرطاجية، وقد احتُفظ بهذه القطعة في المتحف الوطني بنواكشوط.

ظل التعاطي الموريتاني التونسي سيارا، يخترق الزمن والسياق، ويتجاوز كل المجالات والأنساق؛ فما إن أُعلن عن تأسيس الدولة الموريتانية الحديثة؛ حتى هبت الجمهورية التونسية نصيرا في كل القضايا، وفي كل المحافل الدولية، وظهيرا في تكوين الأطر الموريتانيين.

و بعد الاستقلال تعززت العلاقات الأخوية بين موريتانيا و تونس فشملت العديد من المجالات: التعليم العالي و تكوين الأطر ،الصحة ،الاتصالات ،التبادل التجاري و لئن كان مستوى التبادل والتكامل مقبولا فإن التاريخ القديم والحديث اللذين بَيَّنْتُ أعلاهُ بعض محطاته يُلزمنا بمزيد الجد والاجتهاد لاستثمار المشترك و تعزيز التبادل على كافة الصُّعُد و المستويات فالأكيد أنه ما زالت هناك فرص ضائعة.

و لقد اتَّسَعَ صدري عندما عبرت لنا السيدة الدكتورة حياة قطاطْ القِرْمازِي وزيرة الثقافة بتونس الشقيقة عن استعدادها لإعداد برامج تنفيذية لمشاريع ثقافية مشتركة تطال كل مشمولات الثقافة و هو استعداد حَيَّيْتُه بمثله عجزا مني عن ما هو أحسن منه.

و أتمنى أن تنقشع قريبا غُمَّة جائحة كوفيد 19 فتستعيد كل الأجهزة المؤسسية حركيتها تفعيلا و تطويرا لمختلف متاحات التعاون والتبادل والتكامل بين البلدين الشقيقين.

أشكر شكرا خالصا وزيرة الثقافة التونسية و طاقم الوزارة على كريم الدعوة و حسن الوفادة و سخاء الضيافة واثقا من بلوغ معرض تونس الدولي للكتاب أهدافه ومراميه عاقدا العزم على أن ننفذ معا وقريبا محفظة تعاون بين قطاعيْ الثقافة بالبلدين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى