أقلام

بداية التشكل الفعلي للبعث الموريتاني (معلومات تنشر لأول مرة )

 

 

بين الوجود الشكلي والوجود الفعلي

لقد كانت تجربة النشاط السياسي و إن شئت قلت
النضال السياسي غنية بالأحداث و العبر التي يجب
أن يعرفها من لم يعشها و يعيد قراءتها وفهمها من لم
يساعده الحظ لإستيعاب وفهم الأحداث والتطورات التي كثيرا مايكون فهمها و إدراك العلاقات الجدلية المتحكمة في ديناميكية صيرورتها ومآلاتها غير متاح للجميع وخصوصا التطورات السريعة والطفرات التي تحدث أحيانا وتزيد صعوبة المتابعة و الفهم للعوامل المتداخلة أحيانا وأحيانا غير متداخلة التي تتحكم في الأحداث والظواهر .
لقد كانت بداية تجربتي في العمل السياسي شبه المنظم في نهاية ستينات وبداية السبعينات وكنت ممتلئ الذهن والعواطف بشخص عبد الناصر الذي لم تزدني نكسة ١٩٦٧ إلا تعلقا به وربط كل آمالي في المستقبل به، و لقد كان صوت العرب في القاهرة ومذيعه أحمد سعيد بصوته الجهوري و حماسه الزائد و خطب الزعيم جمال مصدر إمدادي بالطاقة وإنعاش آمالي بالمستقبل وكان الواقع يعج بالحركة والنشاط السياسي حيث كانت حركة الكادحين الماوية والتي كان قادتها متحولين من القومية الناصرية في أكثرهم إلى الماركسية.
كنتيجة ورد فعل على نكسة حزيران لمن يفسر الأمور على هذا المنوال أو نتيجة لصعود المد الماركسي مع الثورة الثقافية في الصين و الثورة الطلابية في فرنسا لمن يفسر بهذه الصيغة أيا كان السبب كانت القوة الرئيسية في انواكشوط وكل الوطن حركة الكادحين، ولقد بدأت من يومي و إلتقيت فيه ببعض العناصر القومية الذين كانوا من الإتجاهين الناصري والبعثي وكانو قليلين جدا ولا يتحدثون إلا عن القومية دون تمييز .
بدأت لعب دور رئيسي في النشاط وشكلت عامل صدام مع الكادحين . وبجهود  الجميع وكان البعثيون فى مقدتمتهم بدأ التوسع بوتائر متسارعة وعجل ذلك بطرح التمايز بين الإتجاهين القوميين ولا أبرئ نفسي من دور في تعجيل انفصال الإتجاهين فقدكنت حادا في معارضة البعثيين بسبب الحملات التى كانت تشن عليهم في الإعلام المصري و مقالات هيكل وصوت احمدسعيد الذين كنت متأثرا بهم ، لكن سرعة الأحداث وقوة الصراع مع الكادحين أودت بي إلى اختيار الإتجاه البعثي لتماسك منطلقاته الفكرية وقدرته فى المحاججة النظرية مع اعتمادهم التنظيم والتسلسل القيادي الذي يشكل إضافة قوة فى النشاط والعمل. وفي سنة ١٩٧٢ بدأ نظام المغفورله بإذن الله المختار بن داداه يخطوا خطوات عظيمة للإستقلال السياسي والسيطرة علي الثروة المعدنية و إنشاء العملة و الإنضمام للجامعة العربية، بكل بساطة بدأ المختار يقطع الطريق على المتحججين بالوطنية ومصالح الشعب وقد إنخفض المد الثورى ووقع بعض التوقف من كثيرمن العناصر وبقي العمل فى حده الأدنى ومررت شخصيا بفترة الإهتمام بوضعي الأسري الخاص وتوظفت في الصحافة.
وظل هناك وجودشكلي لكثير من العناصر التي تتبنى الخط البعثي وفي السنوات اربع وسبعين وخمس وسبعين تحول خيرة الشباب الذين كانوا يشكلون قوة البعثين في قطاع الطلاب تحولوا إلي اليسارالجديد ( اتروتسكية ) وبدأو يحاولون تحويل القوة الشعبية التي كانت عند البعثين الي هذا الإتجاه ، وقداستدعوني لإجتماع كان يهدف إلي شرعنة هذا الإتجاه ورفضت الأمر . كان من الحاضرين محمد يحظيه بن الطلبة وحماد بن بدى . وانقطعت من اي اتصال حقيقي بعد ذالك الإجتماع بالجماعة التى أصبح وجودها شكليا وغير فعال ولقداتاح لي هذا الوضع حرية فى النشاط و زاد احتكاكي بحزب الكادحين وبدأت أطلع علي بعض أمورهم الداخلية ونسقت معهم بعض النشاطات مثل محو الأمية الذي كان جزء من النشاطات التطوعية التى عرفتها المرحلة . ولقد كانت مرحلة ٧٥- ٧٦ التى كنت فيها مراسلا لوكالة الأنباء فى العيون عاصمة الحوض الغربى اكثر فترة مارست فيها نشاطات تطوعية فى محو الأمية والتوعية ضد ممارسة الرق وضد إحتقار الصناع التقليدين و إتهامهم بالأوصاف الظالمة التى تسود فى الريف وكذلك التوعية بمخاطر الكثيرة لمظاهر التراتبية السيئة السائدة في المجتمع . جرى كل هذا النشاط وانا غير متصل بالجماعة التى كان لها وجود شكلي تحت اسم الحركة الوطنية الديمقراطية التي كنا انشأناها سنة ١٩٧٣ ، لم أشر إلي ذالك فى السرد لأني اعتبره من جملة مرحلة الوجود الشكلى غير الفعال الذى اعقب المرحلة الأولى . وفى سنة ١٩٧٥ بدأت بداية الاحداث الأولى لحرب الصحراء عندما بدأت موريتانيا دخول الصحراء تطبيقا لقرار التقسيم الموقع بين موريتانيا والمغرب من جهة وإسبانيا من جهة أخرى.
لقداستدعاني والي الحوض الغربي ذالك الوقت المغفور له بإذن الله احمد سالم ولد سيدى وكانت رتبته رائد وهي رتبة عالية فى ذلك الوقت و  استدعا رؤساء المصالح الجهوية و وقيادات حزب الشعب في عاصمة الولاية و لأني ممثل الوكالة فقدكنت من المدعوين ، وتلى  علينا بيانا من وزارة الداخلية يتحدث عن أحقيتنا فى الصحراء وأننا تعرضنا عند بداية دخولنا الصحراء للإعتداء ويطلب منا الوحدة ودعم الجيش الوطنى ولقد أيد المجتمعون كلهم تقريباموقف الدولة وكان بعضهم متحمس جدا ووقفت وحدي ضد إتفاق مدريد وإقتسام الصحراء وكنت حاد أو صريحا فى إدانة ما يجرى وحذرت فى كلمتي من خطورة ماقدمنا عليه وماننتظره ولقد كان تحليلي مطابقا لما كشف عنه المستقبل ورغم أن المرحوم بإذن الله احمد سالم كان يحترمني ويعاملني دائما بلطف إلا أنه فى هذ الموقف أظهر الغضب وهددني بصراحة وقال ان الدولة لن تتساهل مع معارضة الموقف الوطني لكننى ثبت على موقفى وقد علمت بعد ذلك عندما رجعت الي انواكشوط ان محمد يحظيه بن ابريد الليل وآخرين وقفو نفس الموقف من دخول الصحراء و الأحداث التى ترتبت على ذلك الدخول .
ولقداستدعتنى الوكالة لنواكشوط قبل أن يتم تحويلي الي أطار ،وقد أتاحت لي هذه الإقامة (عشرة شهور من آخر ٧٦ وأول ٧٧ ) فرصة المعرفة المعمقة لآدرار وتركيبتها السكانية و اكتشفت مستوي من الحماس للحرب دافعه ماضي الصراع القبلي بين أولاد قيلان والرغيبات الذين كانوا يشكلون دورا رئيسيا فى جبهة البولزاريو التي تصطدم بالقوة الموريتانية والمغربية وكانت القبائل المتحالفة فى منطقةآدرار متشابهة في موقفها من الحرب مع موقف أولادقيلان وحلفاؤهم من الجعفرية ( اولاد عمنى واولاد آكشار ) ولايختلف موقف إيديشلي الذين يتميزون عن الجميع ببعض الميزات لكنهم جميعا متحمسون فى الحرب ، ولقدإطلعت بسبب وجودي اكثر الوقت مع الوالي ذاك الوقت ( انغام ليروان ) على موقف السكان من قائد المنطقة العسكرية ذالك الوقت محمد خون ولد هيدالة لقدكانو يعتقدون انه موالي للبوليزاريو الذي عليه محاربتهم وكانو ينقلون الكثير من الروايات والقصص عن علاقاته وصلاته بأشخاص من البولزاريومعروفون ، و قدإطلعت على مقاومة الوالي للحملة الشعواء التى تستهدف هيدالة و التى بلغت من القوة بحيث أقنعت رئيس المحكمة الجهوية في آطار بقرار إحالة ولد هيدالة للمحاكمة بعد ان يعتقل ، الشيء الذى رفضته حكومة المختار بن داده ، و بعد ذالك وقعت معركة بجرطالة شرق ودان
بين القوات التى يقودها ولد هيدالة و وحدة من البولزاريو وانتصرفيها ولدهيدالة وأخذ غنائم واسرى
الأمر الذي أخرس اصواتا كثيرة كانت ترتفع ضده!
ولقداستطعت تكوين صلات ببعض أوساط البولزاريو
عن طريق الأسرة المقيمة  فى أطار من الرغيبات والتى
ذهب اكثر رجالها الي المشاركة فى القتال فى صفوف
البولزاريو وصرت أعرف بعض اخبار جبهة القتال من مصادر أوساط جبهة البولزاريو ( وتذكرت ان السلطة فى العيون كان ينقل لهم بعض المخبرين كذبا انني التقي فى العيون بعناصر من البولزاريو ) تذكرت ذلك و انا أجد اخبارهم ولا أحد يتهمنى او يشك في أمري . ولقدكانت لي علاقات بولد هيدالة الذي دعاني مع بعض الأصدقاء ، وقدكونت انطباعا عن ولد هيدالة ، صعب علي ان أفهم كيف يتصدى لتسلم السلطة لان كان فى منتهى التواضع والتقشف والبعد من البحث عن الظهور وكان غير مكترث بمايدورمن إشادة ببطولات بعض الضباط زملاؤه فى الجيش ، لقدشكل تسلم ولد هيدالة للسلطة فيما بعد مفاجأة كبيرة لي .
وعند رجوعي من أطار كانت الحرب بدأت تشتد وبدأ
بلدنا يعاني من تأثيراتها وفاتورتها المرتفعة في هذه
الظروف إتصل بي محمديحظيه بن ابريد الليل وأراد
معرفة رئيى في الوضع وكانت مواقفنا متطابقة ، فطلب مني لقاء موسع مع بعض من كان يشترك معنا فى التوجه ولقد عقد هذ ا الإجتماع الذي كانت المبادرة فيه و مجهود التجميع لمحمديحظيه وكان الإ جتماع في داره ولقد تكون الإجتماع  المثير من العناصر التى كانت في الحركة الوطنية الديمقراطية التى كانت هي الإطار الذي انشأه البعثيون بعد انفصالهم عن الناصريين ، اثناء فترة انخفاض النشاط بعد ٧٢ ، ولقد كان الإتفاق
تاما فى معارضة الحرب وبدا الموضوع يكون فى تحديد الإطار الذى يكون فيه العمل ماهو؟ ولقدكان
محمد يحظيه بن الطلبة يرتبط بعلاقات بالقيادة القومية لحزب البعث وقدم رأي القيادة بأنها توافق
على اي شكل نختاره نحن للعمل وكان كثير من العناصر لا تنتمي للبعثية وتنتمى لليسار الجديد ( اتروتسكية ) التي كانت تريد العمل تحت إسم الحركة الوطنية الديموقراطية ، ولقد كان محمد يحظيه بريد الليل يريد ما يمكن الإتفاق عليه اوهذا مابدى  لي ، و قد كان موقفي قاطعا أننى لا أقبل إلا عملا بعثيا واضحا لا غير ذلك وأيدني أولا التراد بن ديداه رحمه الله ثم محمدفاضل بن سيدي هيبة وهكذا بدأ محمد يحظيه ابريد الليل و محمد يحظيه ولد الطلبة يرجحون الكفة وكانت هذه بداية التكوين الحقيقى لتنظيم حزب البعث فى موريتانيا ولقدأعقب هذا الإجتماع إجتماع لإختيار القيادة وعقد في خيمة في منزل محمد يحظيه ولد الطلبة و أختارنى الرفاق لأمانة السر وبدأت مرحلة الوجودالفعلي الفعال بما أحتوى من سلبيات تخللت الكثير من الإيجابيات سيحكم التاريخ بالصح والخطأ فيماجرى بعد تلك اللحظات لكنه لن ينكر أن تلك المرحلة شكلت الميلادالحقيقى لتجربة البعث في موريتانيا بمالها وماعليها أما ما عقب ذلك فموضوع آخر !! ………

مذكرات الأستاذ التراد سيدي قيادي من الجيل الأول للبعث الموريتاني

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى