أقلام

كلام في النازلة الكورونية (أ)/ماء العينين دحمود

 

 

كلام في النازلة الكورونية
(أ)
ها قد دقت صفارة الإنذار في مجموع المعمورة من جرّاء جائحة كورونا، وعمَّ الاستنفار جميع المستويات، صحيا وأمنيا وإعلاميا. ونظرا لأهمية الإعلام في مكافحة الجائحة، ونظرا لمقولة “لا أحد أصغر من أن يُفيد، ولا أحد أكبر من أن يستفيد”، رأيتُ من المناسب أن أشارك بمستخلص يفيد في النقاش الفقهي والإرشاد الديني والصحي فيما يتعلق بهذه الجائحة، وذلك بوصفي طالب علم.

فمن المعروف عند أهل الاختصاص أن فيروس كورونا (كوفيد 19) لا لقاح يقي منه ولا دواء يعالجه. وهو قابل للتطور والطفرة الجينية، ليصير خطره أشنع في أي وقت. وهو شديد الانتشار، وفق متتالية هندسية، ويصيب الأعضاء النبيلة (الرئة ثم الكلى)، وطويل الحضانة نسبيا. هذا مع وجود ظاهرة “الأصحاء المعدين”. ولا ينحصر خطر الفيروس، كما يشاع، في ضعاف المناعة من مُسنَين وأصحاب الأمراض المزمنة، بل يشمل خطره حالات الضعف الظرفي، من إعياء وجوع ووعكة عابرة (وهي حالات لا يسلم منها أحد). وينتقل بالمساكنة والزمالة ومجرد المصادفة، فضلا عن لمس أي شيء ملوث كمقابض الأبواب والسيارات والنقود، وغيرها. وخطورة التجمعات في كونها لا تخلو من شخص حاملا للفيروس على نحو ما (في عطاسه أو سعاله أو على يده أو رجله أو لباسه).

ومنذ أن تفشى الوباء، ظهرت فتاوى فردية وجماعية بجواز التخلف عن تأدية الجماعة والجمعة، خوفا من المرض. وبناء على توصيات أهل الاختصاص في مكافحة الأوبئة، مشفوعة ً في بعض الأحيان بالإحالة إلى فتاوى هيئات الإفتاء، عمدت بعض الحكومات في البلاد الإسلامية، نظرا لمسؤولياتها السيادية والأخلاقية، إلى إغلاق المساجد، ضمن غيرها من أماكن التجمع.

وقد عورضت تلك الفتاوى من لدن قلة من المفتين، لم يقدّروا الوباء حق قدره. وقد اقترح بعضهم حلا توفيقيا يجمع بين تشديد الإجراءات الوقائية في المساجد مع الاستمرار في تأدية الجماعات والجمعة فيها. إلا أنّ أهل الاختصاص يرون ذلك التوفيق غير ممكن عمليا. فكيف نضمن التعقيم والكمامات والسجادات الخصوصية والتباعد بين المصلين عند كل صلاة، وفي كل مسجد؟ وكيف نحدّ من عدد المصلين؟ والحال أن المساجد يرتادها كل من هب ودب (مجانين، معاتيه، أطفال..)، ويسود فيها عدم الانضباط. ففداحة الجائحة لا تقبل أنصاف الحلول، بل تتطلب عملا استباقيا وإجراءات قاسية، كحظر التجول وإلزام الناس بالبقاء في البيوت.
(ب)
وقد تأسست فتاوى التخلف عن المساجد وفتاوى الإغلاق على مجموعة متداخلة من الأدلة الشرعية، يمكن تلخيصها فيما يلي :
– الخوف من المرض والهلاك بالجائحة، وتصنيف ذلك الخوف موجبا للتخلف عن المساجد وإغلاقها ؛
– وجوب حفظ النفس (الذي هو من الضرورات والمقاصد الشرعية) ؛
– حرمة إضرار الغير(لا ضرر ولا ضرار ؛ منع رائحة كريهة في المسجد) ؛
– النهي عن المجازفة (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) ؛
– أحاديث الأمر بالحيطة من العدوى (“فرّ من المجذوم فرارك من الأسد” ؛ “قد بايعناك فارجع” ؛ “لا يورد ممرض على مُصحّ”، وحديث عبد الرحمن بن عوف في التعامل مع الطاعون بالحجر بين بلدة موبوءة وأخرى سليمة)، ولجوء عمرو بن العاص بالناس إلى التفرق في الجبال، بوصفها أماكن نقية الهواء وغير مأهولة ؛
– اعتبار الشرع لقول أهل الاختصاص (القائلين إنّ فداحة الجائحة تقتضي منع أي تجمّع) ؛
– أمره صلى الله عليه وسلم المصلين بالصلاة في البيوت أو الرحال، خشية ضرر المطر والبرد والوحل. وفي هذا الأمر دليل خاص على مشروعية تعليق الصلاة الجامعة في المسجد أو المصلى، لعذر. ولا شك أنّ ضرر انتشار الوباء أشد وأعم.

ويمكن تلخيص تلك الأدلة في “ترجيح المحافظة على النفوس على المحافظة على الشعائر الجماعية، عند التعارض، نظرا إلى أن المحافظة على النفوس شرط في بقاء المحافظة على الشعائر”.
– الاستئناس بحالات الترخص الواجب، كخمر لغصة، وميتة لخائف هلاك، ووجوب الفطر على مسافر لقي أذى شديدا (…. أولئك العصاة!…أولئك العصاة !)، وهي حالات تجعل الرخصة الأصلية حراما ؛
– فقه المآلات وسد الذرائع.
(ج)
فإذا تقرر أن فتاوى إغلاق المساجد في هذه الجائحة تستند إلى أدلة وجيهة، ظهر أنه لم يكن من المناسب وصفها بما وصفها به بعضُهم (في مبحث معمق تحت عنوان “هوامش على متن فتاوى تعطيل المساجد”)، من أن تلك الفتاوى ((واهية – يعوزها النظر السليم – اجتهاد باطل في مقابل النص – خرق للإجماع – تأويل بعيد فاسد – عدول عن الأصل بغير صارف – حرام قطعي، معلوم من الدين بالضرورة – إحداث في الدين يذاد صاحبه عن الحوض يوم القيامة))، وذلك في إجابته على السؤال ((هل يجوز إغلاق المساجد منعا لانتشار الوباء؟))، أو ((هل يعتبر إغلاق المساجد وتعليق شعائر الجماعية والجمعة وسيلة مشروعة للوقاية من الأوبئة؟)).

ويجدر التنبيه هنا أنّ فتاوى إغلاق المساجد فرع عن فتاوى التخلف عنها، والإغلاق يستتبع التخلف. فهما تشتركان في نفس المسوّغ (فداحة الجائحة، ورجحان المحافظة على الأنفس على المحافظة على الشعائر). فلا يتيسر الفصل بينهما تماما عند تحرير موضوع النزاع فيهما أو عند تنقيح أو تحقيق مناط الأدلة المتعلقة بهما. وأودّ في النقاط التالية (من 1 إلى 10) أن أعترض على الاستدلالات الواردة في المبحث الآنف الذكر، مؤثرا في أغلب النقاط ذكرَ الصواب ثم إتباعَه بذكر الخطإ المقابل له، مع نقل ((أقوال صاحب المبحث المذكور)) بلفظها أو مخلصة بمعناها :
1. إنّ إغلاق المساجد في الجائحة حماية للأرواح المسلمين، ولا يصح إدخاله في ((المنع الظالم)) الوارد في آية “ومن أظلم ممن منع مساجد الله” ؛
2. تتطلب عمارة المساجد حماية عُمّارها من الجوائح، فتغلق إذا دعت الضرورة لذلك. والقاعدة أن ما لا يتم الواجب إلا به واجب. ومِن رفع المساجد أن لا ندخلها برائحة كريهة (كالبصل والثُوم والتدخين؟)، فمن باب أحرى أن لا نجعلها محلا لانتقال العدوى وسببا لهلاك عمّارها ومخالطيهم.
3. في ظروف الجائحة الحالية، يتعارض “التمكين من الصلاة في المسجد” مع ((وجوب التقيد بنصائح أهل الاختصاص))، ومع النهي عن الإلقاء بالأيدي إلى التهلكة، ووجوب حفظ النفس، ومنع الضرر، وسد الذريعة ومراعاة المآلات، وأدلة نفي الحرج، وبقية الأدلة الآنفة. فتلك أصولٌ ومخصصاتٌ صارفة عن ((أصل التمكين من الصلاة في المسجد)). ولا يصح التمسك بأصل مع وجود صارف.
4. عند قيام العذر عن التخلف عن الجماعة والجمعة (كما هو الحال في الجائحة الحالية)، لا يمنع ترخّص بعض الناس من ترخّص بعض. فالترخص يمكن أن يعمّ جميع المخاطبين بالجماعة والجمعة، أئمة ومأمومين، إذا عمّهم العذر. هذا العموم هو الأصل. ومن خالف فعليه الدليل. وليس الترخص من باب الترك الطوعي لفرض الكفاية. فلا يصح القول إنّ ((الرخص تخص آحاد الأمة دون مجموعها)).
5. في الجائحة الحالية، لا يتصور أن تسلم المساجد المفتوحة من دخول الفيروس إليها، ولا يمكن التمييز ضمن المرتادين بين مريض وسليم وحاضن للمرض ومشتبه فيه، حتى نستطيع أن نخص بعضهم دون بعض بإجراء وقائي أو بحكم شرعي. وحاضن المرض يعدي وهو صحيح ظاهريا. فالاحتياط المأمور به شرعا متعين هنا في حق جميع المرتادين. والمفسدة المعتبرة هنا هي “انتقال الفيروس من شخص لآخر على نحو مظنون أو متوقع”، وليست ((كون جميع المرتادين حاملين للفيروس))، حتى يقال إنّ ((إغلاق المساجد مبني على مجرّد احتمال عقلي أو عاديّ، أي على مفسدة وهمية لا تعادل مصلحة عمارة المسجد وتأدية الشعائر الجماعية)). وهل من الحكمة أن ننتظر حتى يعم الوباء كل حي حتى نغلق المساجد؟ فنندم، ولات ساعة مندم.
6. إغلاق المساجد أمام المرتادين وسيلة يقصد منها منع العدوى في المساجد لا في غيرها من الأماكن.
ومن أغرب الغريب القول إنّ ((إغلاق المساجد وسيلة لم تشرع، لأنها لم تؤد مقصدها من وقاية مرتاد المسجد من التعرّض للعدوي في الشوارع والبيوت والمحلات التجارية والخدمية والإدارية)).
وكذلك القول عن مرتاد المسجد : ((… فكان الاقتصار على منعه من مخالطة الغير في الصلاة باطلا، إلا إذا اعتبرنا أن الاجتماع للصلاة أمر حاجي كالاجتماع للدراسة، أو تحسيني تتميمي كما في الأعراس، أو عبثي كما في المباريات، أو باطل كما في المراقص)) قول فيه سخرية وتجاهل أن إغلاق المساجد لم يأت منفردا في أي بلد من بلدان العالم، بينما الواقع أنه جاء ضمن حظر جميع التجمعات.
7. لا يتصور أن فتاوى إغلاق المساجد لسبب صحي ضمن غيرها من التجمعات يمكن أن تشجع على إغلاق المساجد بتهم جاهزة كـ((التطرف والإرهاب ومعاداة السامية)). بل على العكس من ذلك، فإنّ فتاوى فتح المساجد أثناء الجائحة أدعى لاتهامها بالتطرف من فتاوى الإغلاق. وفتح المساجد أمام وباء مخاطرة بالأرواح يخشى أن تكرّه الناس في المساجد.
8. لهذه النازلة ملابساتها الخاصة غير المسبوقة (من فداحة الوباء، والعولمة التي جعلت من العالم مترابطا، وقول أهل الاختصاص بمنع التجمعات) فلم يتقدم فيها قول. فلا غرو أن تكون الفتوى فيها غير مسبوقة، نظرا لخصوصيتها. فمنقولات الكتب والمذاهب الفقهية الأربعة في هذا الشأن كانت في حال مغايرة لخطورة الجائحة التي تتطلب تفادي أي تجمهر وبالتالي إغلاق المساجد. وكل نازلة جديدة لا تصح فيها دعوى ((خرق الإجماع))، ولا دعوى ((معلوم من الدين بالضرورة)).
9. إغلاق الدولة للمساجد أثناء الجائحة، مع قيام موجب التخلف (الخوف من المرض والهلاك)، لا يصح إدخاله في باب ((تعطيل صلاة الجماعة)). فالجماعة تصح في البيوت، والجمعة ينوب عنها الظهر.
10. ومجمل القول : أنّ من يفتي الناس بـ((بقاء عزيمة الجماعة في المسجد إبان الجائحة الحالية)) لا يختلف عن الذين أفتوا “الجريح الجنب بوجوب الاغتسال في ليلة باردة”، وذلك بجامع أنّ كلاهما أفتى بما يسبب الهلاك. والتهوين من شأن الوباء، كالقول بـ ((محدودية خطورته على الناس عموما)) جهل بالواقع الصحي. وعلى صاحبه أن يستشعر عواقب فتواه، في أمر ليس مؤهلا لتقدير خطورته وينبغي فيه من إجراءات استباقية. وليت شعري ما سيكون قوله، لا قدّر الله، لو استفحلت الكارثة وأصبح البلد كله بؤرة، فانهار النظام الصحي والاقتصادي والأمني، وهلك خلق كثير وكثرت السرقة والقتل، وانحلت الأخلاق، وضعف الوازع الديني. فهلا استشعر ضمان الأرواح البشرية التي قد تهلك بسبب الفتوى؟
(د)
11. هذا وقد ذكر بعض الرافضين لإغلاق المساجد والتخلف عن الشعائر الجماعية أن ألا داعي للتخلف عن المسجد أو لإغلاقه للتوقي من الجائحة، لأنّ صلاة الصبح في جماعة تدخل في ذمة الله طوال يومه. والصواب أنّ دخول المصلي الصبح في جماعة ًفي ذمة الله ليس مسوِّغا لمجازفة آثمة بإقدامه مُصِرّا مسبقا على ما يعرّضه أو يعرّض غيره للضرر. فهل يجوز لمن صلى الصبح في جماعة أن يعمد إلى عبور الشارع معصوب العينين، أو أن يسير بسيارة مفرطة السرعة، لأنه محفوظ ؟. وما الذي يضمن إقامة صلاة الجميع الصبحَ في جماعة في جميع الأيام؟
12. واحتج بعضهم بعدم ترخيصه صلى الله عليه وسلم للأعمى في التخلف عن الجماعة. والظاهر أنّ ما قد يوجد من هوامّ ووحوش في وسط حضري (من دون أن يمنع الناس من مزاولة شؤونهم وأعمالهم) لا يقاس عليه خطر جائحة عالمية. وحوادث الأعيان لها ملابساتها الخاصة بها.
والفقهاء قد اعتبروا الخوف على النفس عذرا للتخلف.
13. واعترض بعضهم على إغلاق المساجد بأن حديث عبد الرحمن لم يذكر فيه تعطيل المساجد. والواقع أنّ راوي الحديث إنما أخبرهم عما أشكل عليهم من إقدام أو إحجام. فدل الحديث على الحجر الصحي بين بلد سليم وآخر موبوء. وأدلة النوازل متعددة، وقلما يستوعبها حديث واحد. ولكل نازلة لبوسها الخاصة بها. وأعذار التخلف عن الجمعة والجمعة مبسوطة في كتب الفقه (ومنها الخوف من المرض)، ولا ينكرها إلا جاهل أو متنطع. ثم إنّ الأصل في المسائل الطبية أنها من أمور الدنيا التي تخضع لتجارب البشرية التي تتطور عبر الزمن.
14. واعتبر بعضهم أنّ الأخذ بالأسباب ينافي التوكل والإيمان بالقضاء والقدر، وينافي الشجاعة. (اعقلها وتوكل). وقد قيل : “إنّ الله إذا أراد شيئا قدّر أسبابه”، “النار محفوفة بالنيات الحسن، “من الحب ما قتل”. هذا مع وجود القضاء المعلق على تصرفات المكلفين.
15. ويعتقد بعضهم أنّ للمساجد حصانة ضد العدوى. والواقع أنّ الأوبئة لا تميز بين المسجد والحانة. ولا بين البر الفاجر. وقد تفشى في ماليزيا عبر مسجد كان يرتاده مصاب. وعدوى النزلات الفيروسية في الحج والعمرة مشهودة. كما زعم بعضهم أنّ المساجد لم تعطل في التاريخ (والحال أن بعض المصادر نقلت تعطيلها في بغداد سنة 656 هـ عند مقدم التتار، وفي طاعون 1215هـ في مصر والشام). وعدم النقل لا يفيد عدم الوقوع. ولا عبرة بكل ذلك لخصوصية النازلة الحالية.
16. وأنكر بعضهم وجود العدوى مطلقا. والصواب أنّ حديث “لا عدوى” يعني ألا عدوى مستقلة عن إرادة الله وقدرته. وهذا التأويل متعيّن، نظرا للأحاديث التوقي من العدوى، ولكثير من تعاليم الشرع، ونظرا للواقع. وقال بعضهم إنّ الفيروس جن، كما قيل من قبلُ في الطاعون أنه من (وخز الجن).
(هـ)
والخلاصة أنّ التخلف عن الجماعات والجمعة متعين في الظرف الحالي. وإغلاق المساجد داخل في دائرة تصرفات السياسة الشرعية (أو السلطة التقديرية لدى السلطات العمومية)، من غير ما حاجة إلى فتوى خاصة. ولا تخلو معارضة التخلف عن المساجد وإغلاقها من سوء تقدير لخطر الجائحة، أو الجهل بالشرع، أو التنطع واتباع العواطف العمياء. فينبغي ألا يحملنا التوكل والتعلق بالمساجد على المجازفة بأرواحنا وأرواح أهلينا ومخالطينا. ولنعلم أنّ من كان مواظبا على طاعة كتب له أجرُها إذا تعذرت عليه. ولله الأمر من قبل ومن بعد. والعلم الله تعالى.
نواكشوط، في 26/03/2020
ماء العينين دحمود

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى